أصبح أبًا في زنزانته

  • 2014/02/23
  • 8:42 م

عنب بلدي – العدد 105 – الأحد 23/2/2014

بيلسان عمر-داريا

كنا في زنزانتنا النتنة ننكفئ على بعضنا، علّ متسعًا من المكان يضم جسدًا بقي له متسع من العمر ليحيا في هذا المكان، وإذا بالسجان يصرخ ويفتح باب الزنزانة «إجاكم نزيل جديد.. لاقوله مكان يقعد معكم يا أخوات الشرمــ ..»..

وكعادتنا تهافتنا على القادم الذي ينزف دمًا ودمعًا، ويلتهب جسده من عصا جلاده، وبدأنا نخفف عنه آلامه، ونعطيه ما تيسر معنا من أغطية يتدفأ بها، ريثما يستعيد جزءًا من عافيته، وكلنا على أحر من الجمر منتظرين تماثله للشفاء، علّه يحمل معه أخبارًا جيدة عما يحصل في الخارج، وعن أهالينا وأحبابنا، فإذا به يدخل في غيبوبة من شدة الألم، بل وإذا بنا كلنا ندخل معه في غيبوبته، من شدة حرقة قلوبنا عن نبأ يقين عما يفعله الثوار في الخارج لأجل تحريرنا من أيادي الطغاة.

صحا أحمد من غيبوبته، ولم نتماثل نحن للصحو، فما حمله لنا من أخبار لم تكن على قدر الانتظار والتبشير لنا، وفجأة إذا به يقوم من مكانه، والحق يقال، يقوم من مكان رجله، فلم يجد لعمره المتبقي متسع من مكان في هذه الزنزانة أكثر من محط رجله، وهمّ يضم صديقنا وجاره الغالي رامي، ويبارك له بقدوم مولوده الأول، ويصف له تفاؤل أهله بقدوم المولود، وحتى أهل الحي جميعهم، علّ القادم يحمل معه الخير العميم، كما اعتقدتم أنتم لحظة دخولي، «والله أنا حضرت ولادة زوجتك بالمشفى، وحملت المولود وأذنت في أذنه الأولى، وفي الثانية أقمت الصلاة، وهمست في أذنه أن والده رجل صالح حرّ، هزّ أركان الطاغية برجولته».

دموع رامي –الأب- اختلطت مع ضحكاته، وحشرجت الأنفاس كادت تخنق ما بقي من عمره، فلم يعد يجد لها متسعًا من مكان تخرج منه، فكيف له أن يتصور أنه أصبح أبًا، وهو الذي انتظر قدوم ولد أربع سنوات متتاليات دونما أمل، وترك زوجته مع أدويتها ومحاولاتهما المتكررة باستخدام أحدث الوسائل الطبية، لم يتمكن عقله سابقًا أن يتخيل أن تجربتهما الأخيرة في إحدى المشافي قبيل اعتقاله حالفها الحظ، وأنها أثمرت ابنًا لهما، يزقزق أملًا في دارهما، ويملأ عليهما فرحة تطيل مما بقي من عمرهما.

وجلسنا مع رامي –الأب- نشاطره كل لحظاته مع ابنه، واقترحنا عليه اسمًا للمولود، وكل يوم نستيقظ على صوت رامي يداعب (طيف) ابنه، يغني له، يمرحان سوية، يأخذه ليشتري له ما لذ وطاب من المأكولات والحلوى اللذيذة، ويشتري له أجمل الثياب المزركشة وبألوان زاهية تعيد لما تبقى من عمرنا بريقه، ويمرحان معًا في حديقة الألعاب، وصوت ابنه يعلو، ثم يحبو الابن، ونجهز أنفسنا جميعًا مع معتقلين جدد لأننا مدعوون إلى حفل عيد ميلاد ابن رامي في عامه الأول، ونغني يومها للأطفال والطفولة، ونطفئ (طيف) الشموع مع أمنياتنا بأيام أجمل للأطفال من التي يمرون بها الآن، وننام نحن، ويبقى رامي مستيقظًا يفتح الهدايا مع ابنه، ويبدأ الابن عامه الثاني، ويقرئه رامي كل يوم القرآن والشعر، ويقصّ عليه ما تيّسر من قصص وحكايات، نسمعها مع نحيب يملأ المكان.

رامي يكبر مع ابنه، ويزداد حلم رامي بلقاء المولود، وضمه وشم رائحته، وكل يوم يسألنا: «تُرى هل في العمر بقية، فأتعرّف على ابني، وهل يكبر حلم ابني بلقائي كما يكبر حلمي»، ويضم بشير – حامل الخبر كما أطلق عليه رامي- بكليّته علّه يشتم رائحة ابنه به.

مقالات متعلقة

معتقلون وسجون

المزيد من معتقلون وسجون