عنب بلدي – العدد 104 – الأحد 16/2/2014
فيما تطارد السوريين ذكرى شهداء التجويع والحصار في المنطقة الجنوبية من دمشق، ورسائل الأطفال المحرومين في الغوطة الشرقية وأحياء حمص القديمة وقد اشتاقوا لكسرة خبز أو حبة خيار بعد حصار تجاوز عمره العام في كثير من المناطق، وفيما يتحول صوت الأمعاء الخاوية إلى «ورقة» ضغط يتجاذبها السياسيون على أطراف النزاع وحتى خارجه، يظهر بصيص من النور وسط العتمة بتوزيع المعونات الغذائية في مخيم اليرموك والهدنة المعلنة لإجلاء المدنيين من أحياء حمص المحاصرة قبل بضعة أيامٍ من الجولة الثانية من مؤتمر جنيف2. ولكن، أتراه بصيصًا من النور أم إنّ وراء الأكمة ما وراءها؟
- اتفاق لفتح ممرات
يكاد الحديث عن وقائع الحياة اليومية في المناطق المحاصرة في غوطتي دمشق أحياء العاصمة الجنوبية وحمص القديمة يتجاوز حدود التصديق، فيكفيك الاطلاع على قدرٍ يسير من الفيديوهات المسجّلة في تلك المناطق تستمع لشهادات المحاصرين وتمعن النظر في العظام النافرة من أجسادهم الهزيلة لتكفر بكل الشرائع الدولية والقوانين الإنسانية التي تقف عاجزةً عن إنقاذ هؤلاء من خطر الموت جوعًا في القرن الواحد والعشرين وعلى أرض الشام العامرة بالخيرات.
غير أنّ الأيام القليلة الماضية شهدت تطورًا ملحوظًا بخصوص هذه الأزمة الخانقة، إذ تناقلت وسائل الإعلام أنباءً عن اتفاق بإدخال المساعدات الغذائية إلى مخيم اليرموك وإعلان هدنة «إنسانية» لمدة أربعة أيام في الأحياء المحاصرة في حمص. فقد بدأت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بتوزيع السلل الغذائية على أهالي مخيم اليرموك المحاصر منذ الثامن عشر من كانون الثاني الفائت. أما في حمص فقد بدأ تأمين العائلات المحاصرة الراغبة بمغادرة المنطقة المحاصرة، وإدخال مساعدات غذائية لمن أراد البقاء فيها بحسب الناشط الميداني بيبرس التلاوي.
- الغذاء ليس نهاية الحكاية
تركز المبادرات «الإنسانية» التي تحظى باهتمام وسائل الإعلام هذه الأيام على إيصال المعونات الغذائية على هيئة سلل غذائية تفتقر عادةً للخضار الطازجة التي لم يذق أهل بعض المناطق المحاصرة طعمها منذ أشهر طويلة. ولكنّ الغذاء ليس الحاجة الوحيدة التي يفتقر لها قاطنو المناطق المحاصرة على أي حال. حيث أصدر المكتب الطبي الموحّد لمدينة دوما بيانًا في التاسع والعشرين من كانون الثاني الفائت يعلن فيه اضطراره لإغلاق بعض النقاط الطبية بسبب نقص المستهلكات الطبية والوقود الضروري لتشغيل تلك النقاط، ويشمل ذلك الإغلاق مركز غسيل الكلى الذي سيغلق في منتصف الشهر الجاري وسيضطر مرضاه للجوء إلى مناطق أخرى أو مواجهة الموت بهذا المرض المزمن. ويؤكّد الناشط الميداني بيبرس التلاوي أنّ ملف المصابين يجب أن يعطى الأولوية القصوى حيث إنّ وضعهم هو الأكثر حرجًا من بين الفئات المتضررة من الحصار إذ يضطر الكادر الطبي للعمل في ظروفٍ سيئة ومع افتقار شديد للمواد الطبية مما يجعل بعض المصابين في عداد الموتى.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ إيصال الغذاء لا يعني فكّ الحصار ولا يحلّ إلا جزءًا يسيرًا من الأزمة الإنسانية للمحاصرين. بحسب وكالة رويترز فإنّ السلة الغذائية التي توزعها الأونروا في مخيم اليرموك تكفي عائلة من ثمانية أشخاص لمدة عشرة أيام، أي أنّ الحاجة الفعلية ما تزال أكبر بكثير من حجم المعونة المقدّمة. كما أوضحت تسجيلات العديد من سكّان المخيم استياءهم من طريقة التوزيع المذلّة وطالبوا بفتح الطريق ليتمكنوا من لقاء أفراد عائلاتهم الذين احتجزوا خارج المخيم وتأمين احتياجاتهم الغذائية وغيرها بأنفسهم لافتين إلى الفرق الشاسع بين الحصول على مساعدات تحلّ مشكلةً مؤقتة وبين فكّ الحصار الخانق الذي أورثهم الحاجة والعوز.
إضافةً إلى ذلك كله فإنّ هذه التحركات لا تغيّر حقيقة أنّ سياسة الحصار والتجويع التي يتبعها النظام بشكل ممنهج تعتبر جريمة حرب بموجب البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف 1977 والذي يحظر «تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب». فالحصار الذي قتل 103 مدنياً قضوا جوعًا في مخيم اليرموك وحده بحسب الناشط رامي السيد، ناهيك عن المصابين والمرضى وغيرهم ممن أزهقت أرواحهم بسبب الافتقار إلى أبسط متطلبات الرعاية الطبية في المناطق المحاصرة، لا يمحى من الذاكرة الجمعية للضحايا ولا من سجل النظام الإجرامي الذي يدينه ويقود إلى محاسبته.
- مآرب أخرى
في هذه الأثناء تحتل أخبار وصول المعونات إلى مخيم اليرموك والهدنة «الإنسانية» في حمص القديمة الواجهة الإعلامية للنظام الذي تمطرنا وسائل إعلامه بالتقارير التي تتحدّث عن الإنجاز الكبير والإرادة الجبارة في مساعدة الأبرياء الذين ذاقوا الأمرّين على يد «الجماعات التكفيرية» على حد تعبيرهم. حتى وصل الأمر بأنور رجا المسؤول الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة بوصف العملية بـ «الفدائية» في حديثه للإخبارية السورية، ولكنّ الاستعراض الإعلامي قد لا يكون أكبر غايات النظام من هذه التحركات.
فمن جهة، يأتي وصول المساعدات للمدنيين المنكوبين في وقت تشتد فيه مأساتهم وتجعل أي تحرك مبعثًا للأمل بفرج قريب، ولكن من جهة أخرى فإن التوزيع غير المتساوي وغير الكافي يزيد من الضغط على الثوار وقد يؤدي إلى اقتتال من أجل القوت. فقد تحدثت بعض التقارير عن استشهاد مدنيين اثنين وإصابة آخرين أثناء التدافع للحصول على السلة الغذائية في مخيم اليرموك وهو ما أشار إليه المتحدث باسم الأونروا بوصفه «مشاهد فوضوية». إضافةً إلى ذلك فقد كان شرط توزيع المعونات في المخيم أن يكون المستفيد فلسطينيًا مسجلاً لدى الأونروا، وهو ما أخفقوا في تحقيقه بعد أن تشارك الأهالي الفلسطينيون والسوريون المؤن التي استلموها، بل وأعدّوا الطعام بشكل جماعي عندما دخل عدد محدود من السلل في بداية الحملة، الأمر الذي دفع القائمين على توزيع المعونات إلى تجاوز هذا الشرط وتوزيع المعونات على الجميع بحسب سوزان أحمد الناشطة الإعلامية في ريف دمشق. وتضيف أحمد أنّ جزءًا من المعونات تتم سرقته في شارع نسرين الموالي للنظام ناهيك عن بقاء مناطق القدم، وعسالي، والحجر الأسود، وحجيرة، وسبينة والتضامن خارج نطاق هذا الاتفاق.
ومن جهة أخرى، قد يستفيد النظام من توقيت هذه التحركات لـ «تبييض» صفحته في جنيف الذي انطلقت الجولة الثانية منه قبل أيام قليلة. وقد تدعم هذه التحركات الموقف الروسي الرافض لأي قرار في مجلس الأمن بخصوص الوضع الإنساني في سوريا خشية «تسييس» هذا الملف على حد تعبير السفير الروسي في الأمم المتحدة.
ولعلّ البعد الأخطر للتطورات الأخيرة يظهر في إجلاء المدنيين من أحياء حمص القديمة. «العملية كلها تهجير قسري»، يقول التلاوي موضحًا أنّ لديهم مخاوف حقيقية من العملية ككل وخصوصًا أنّ النظام يستخدم سياسة «استبدال» الأهالي الأصليين بضباطه وعائلاتهم بل حتى بعناصر حزب الله في مناطق عدّة من حمص كما حصل في القصير وهو ما يهدد بطمس هوية المدينة الديموغرافية. أما العائلات التي يتم إجلاؤها فيخشى أن تستخدم كدروع بشرية أو يتعرض أبناؤها للاعتقال، وفي أحسن الحالات فهم سيخرجون من حمص القديمة إلى حي الوعر، أي «من حصار إلى حصار» على حد تعبير الناشط التلاوي الذي طالب الأمم المتحدة بأن لا تكون عونًا للنظام في التأسيس لدويلته المزعومة.