طفلة بعمر الزهور تلاعب فراشاتها في خيالها البريء، تحلم بالدفء والأمان وأن تلبس دميتها فستانها الجديد، وأن تسرّح لها شعرها الذهبي وتنظف لها وجهها بمنديلها الأبيض.
ولكن! وفي يوم مشؤوم، مر عليها كابوس مزعج، وياليته كان كابوسًا! لأنه أصبح واقعًا مريرًا، ومحالٌ أن تستفيق منه، فمشيئة الله وحظها العاثر أرادا أن تكون الشظية (لعبتها) التي لم تفجّر منزل جدها، بل فجرّت وشوهت وجهها وفقدت يدها وإحدى عينيها.
تريد الآن أن تصنع طائرة ورقية ولكن كيف؟؟ بيد واحدة!
تبدأ حكاية الطفلة سارة ذات السبعة أعوام من هنا، من مدينة داريا الصامدة، تلك المدينة التي اعتادت أن يزورها جيش التتار بين الحين الأخر، يحرقون، يخربون، يقتلون، يعتقلون، ويلقون بقنابلهم الخبيثة على البيوت الآمنة، فيحجبون فيها أحلام الأطفال وأمنياتهم,
غفت سارة في أحد الليالي الصاخبة بأصوات القذائف والرصاص، حالمةً بهدوء الأصوات كي تزور منزل جدتها في الصباح وتلعب مع أولاد الجيران، حيث اعتادت ومنذ نعومة أظفارها زيارة منزل جدتها المتواضع، لتلعب في حديقته بين الأزهار والزرع. شاهدت على الأرض قطعة منقّطة، بيضاء وسوداء، فأخذت تلون بها الحائط، والضحكة تملئ وجهها الملائكي الصغير. لم تكن تعلم بأنها ستفقد يدها وعينها في تلك اللحظة، وبأنها المرة الأخيرة التي ترسم بتلك اليد.
فكانت تلك (الطبشورة) التي فرحت بها، قنبلة خلفتها قوات الأمن قبل أن رحيلها، حيث ألقوها في الحديقة، تعبيراً عن همجيتهم ووحشيتهم، علها تنفجر في ذاك المنزل. ولكن مشيئة الله كتبت لسارة أن تكون الطعم الذي فجر المكان عندما حكت القنبلة بالحائط لتنفجر في يدها اليمنى، وتشوه وجهها. سارع أهلها إلى إحدى مستشفيات المدينة، ففوجئوا برفضهم استقبال حالتها، فنقلوها بدورهم إلى مستشفى أخرى خارج المدينة. كان ذلك من حسن حظها، فقوات الأمن سارعت فور لحظة الانفجار إلى منزل جدتها، متهمةً إياهم بتصنيع القنابل والمتفجرات، فتفوهوا بكلام فظ، متناسين همجيتهم البربرة قبل يوم مضى، ومنكرين اقتحامهم بأسلحتهم ومدرعاتهم المكان! سارعوا فوراً إلى المشفى باحثين عن الطفلة الإرهابية، علّهم يقتلونها وينتهوا من أمرها، ولكن لحسن الحظ نجت الطفلة من أيديهم.
قضت سارة فترة طويلة بالعلاج، وكلما استيقظت من غيبوبتها كانت تبحث عن يديها فلا تجدها، تنظر بعينيها فلا ترى إلا بإحداهما، فتصرخ من شدة ألمها، وتسأل والدتها، أين يدي؟ ولماذا لا أرى بعيني؟ ما الذي حصل؟ أريد أن أذهب إلى مدرستي.
بعد عناء وجهد طويل قبلت سارة بواقعها المرير، وعودت نفسها أن تكتب وتلعب بيدها اليسرى، وأن ترى بعين واحدة.
تجلس سارة بين أصدقائها وإخوتها، تنظر إليهم كيف يأكلون بسهولة، كيف يمسكون ألعابهم بأيديهم، وتتألم أمها لذلك كثيرًا، وهي ترى قرة عينها وشعلة حياتها متألمة وحزينة. تفكر بمستقبلها الذي دمرته وحشية نظام لم يعرف يومًا إلاّ القتل. كيف لابنتها أن ترتدي فستانها الأبيض بعد اليوم؟ وكيف ستكمل حياتها بيد واحدة وعينٍ واحدة؟!
سارة ضحية أخرى من ضحايا النظام، وذنبها الوحيد عشقها لحديقة جدتها.