المجنون
معتز مراد
عندما كانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي بداية القرن الماضي، جزّأها الاستعمار إلى خمس دول متجاورة منها (دولة دمشق- دولة حلب- دولة جبل العلويين) على أسس طائفية وعرقية. وتحت ضغط الشارع السوري والرجال الوطنيين في البلاد، أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو ميلاد الاتحاد السوري «الفيدرالي» الذي يجمع الدول الثلاث السابقة. وفي عام 1932 تم إعلان الجمهورية السورية (سوريا حاليًا).
كان هذا الإعلان نتيجة جهود كبيرة بذلها ذلك الجيل الكبير، أمثال فارس بيك الخوري وشكري القوتلي وهاشم الأتاسي وعبد الرحمن الشهبندر ولطفي الحفار وغيرهم، فلم يجدوا في الاتحاد السابق شكلًا قابلًا للحياة والاستمرار، فأبناء سوريا تعايشوا مع بعضهم لقرون طويلة وكانوا مثالًا يحتذى للسلم الأهلي والتعايش المشترك بين الطوائف والأديان والأعراق العربية والكردية والآشورية، مسلمين ومسيحيين، سنة، علويين ودروز.
ومع مجيء حافظ الأسد اختلفت الصورة بشكل ٍكامل، فقد استطاع الحاكم الجديد أن يجرّ الطائفة العلوية بشكل كبير إلى معركته ويجعلها مدافعة عن وجوده، على أنه الحامي لوجودها من التهديد السني في سوريا. وكان ذلك واضحًا في أحداث الثمانينات والتي انتقم فيها حافظ الأسد بشكل وحشي من معارضيه السنة (الأخوان المسلمون) أساسًا والشيوعيون ثانيًا، وكل من عارضه ثالثًا، حتى من أبناء طائفته. بعدها تم تهجير العقول خارج البلاد، وأصبحت سوريا مزرعة لآل الأسد ومن يشكّلون العقد الذهبي في السلطة. وعاش السوريون حالة من السلم الأهلي التي فرضتها قوة الحديد والنار تحت إدارة الأجهزة الأمنية. ولكن مع مرور الوقت وذهاب جيل كامل عاش مأساة الثمانينات، بدأت تصبح تلك الحالة في سوريا حالة مستدامة نسبيًا، وتجد الغالب من الشعب السوري يتعايش مع «العلويين» كمكون من مكونات سوريا، مع وجود درجات للمواطن السوري يعيها الغالب الأعظم من الشعب، أعلاها السوري العلوي، يتلوها السوري المسيحي وبعدها الدرزي ثم السني، والكردي في المؤخرة دومًا.
ومع بداية الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، أراد الأخير أن يعيد التاريخ بحذافيره، واستدعى لتلك المهمة كل الشخصيات التي شاركت في المأساة الماضية. وبدأ من جديد يجنّد الطائفة العلوية لصالحه، ويقنعها أن مصيرها إلى زوال إن لم تتخندق إلى جانبه وتقاتل دفاعًا عن نظامه. وأخرج من شخوصها أسوء ما عرفته البشرية من قتل وإجرام بحق الإنسانية. وللأسف لم يشفع للثورة السورية أن بقيت شهورًا وهي تنادي «واحد واحد واحد الشعب السوري واحد»، «سلمية سلمية»، «إسلام ومسيحية دروز وعلوية»، «الشعب والجيش إيد وحدة». فقد ترسخت في اللاشعور العلوي الجمعي القناعة القائلة أن نظام الأسد هو المدافع عن وجود الطائفة، ولم تكفي تلك الشهور من السلمية والشعارات المدينة الوطنية أن تكسر تلك القناعة وتحرّض الضمير والشعور الإنساني لديهم.
لم يكن الغالب الأعظم (في طرف الثورة أو طرف النظام) يتوقع أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، فبشار الأسد ونظامه الأمني جرّا البلاد والعباد إلى ما يشبه المحرقة الكاملة، على مستوى الإنسان والعمران والثقافة. وباتت كل الاحتمالات واردة حتى تقسيم سوريا إلى دويلات متعددة، فالتطرف الذي وصلت إليه الطائفة العلوية (آخر ما حدث هو معارضة العلويين في بعض مدنهم لدخول المساعدات الإنسانية للمدن المحاصرة التي يموت فيها السوريون جوعًا)، هذا التطرف الذي لا يمكن إلا لحاكم مجنون أن يغذيه ويرعاه ويزكي نيرانه، في كل لحظة من لحظات اليوم، في الليل والنهار وعلى مدار الساعة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :