مليون يتيم يحدّدون مستقبل سوريا
إبراهيم العلوش
اتهمتْ قبل أسابيع زوجة أب سورية بقتل أحد أطفال زوجها في غازي عنتاب التركية، لأنه مايزال خائفًا من الحرب ويتبول على نفسه، خبر تناقلته الصحافة، ولم تتناقل ما يعانيه آلاف الأيتام السوريين ممن ابتلوا بمثل زوجة الأب هذه غير الأمينة، أو بزوج أم غير أمين، على الأيتام الذين يعيشون معهم.
آلة الحرب السورية تُلحق مئات الأطفال كل يوم بخانة اليتم، وتتركهم بلا حنان وبلا عطف، وأمام جدار صلب من التجاهل الذي قد تخرقه بعض مبادرات الشفقة والصدقة والابتسامات العابرة، فبعد أيام أو أشهر من العناية باليتيم من قبل أهله سرعان ما قد يملونه ويتركونه للإهمال، وقد ينقلب الأمر الى جحيم جديد بعد جحيم فقد الأب، تعيشه الأم وسط مجتمع ذكوري يعتبر التحرش الجنسي ميزة فروسية، وما على المتحرش إلا تقديم بعض الخدمات والتستر بالشفقة ريثما يتمكن من الأم الشابة والمحتاجة. أو أن تتمكن امرأة من إغواء الأب الذي قُتلت زوجته مستغلة حاجته وحاجة أولاده الى العناية والانتباه لتحتل مكان الأم المتوفية وقد لا تقوم بدور زوجة الأب الحافظة لحقوق الأيتام.
لا شك أن الأيتام الذين بقي أحد أبويهم محظوظون بالنسبة للذين فقدوا كليهما، ووجدوا أنفسهم في الشارع، أو في دوامة التنقل من بيت إلى بيت من بيوت الأقارب والأصدقاء، الذين سرعان ما يملهم الكثير منهم، ويتضايق أولادهم من الأيتام الدخلاء على المنزل، أو يتضايق الأب أو الأم من هؤلاء المنكوبين، لكن الحفاظ على هؤلاء الأيتام وانتزاعهم من دوامة الاضطراب هو إنقاذ لحياتنا ولحياة أبنائنا، فكل ظلم للأيتام سينعكس تخريبًا على مستقبلنا ومستقبل أبنائنا.
من حق الأرملة أن تتزوج، ومن حق الأرمل أن يتزوج، ولكن من حق الأيتام أن تُضمن حقوقهم بالرعاية والحنان وحفظ إنسانيتهم، فهل نحن قادرون على إنتاج قيم جديدة تجترح أعرافًا وقوانين متشددة في حفظ حقوق هؤلاء الأيتام، هل القانونيّون قادرون على إدراج مواد، وعقوبات، ومكافآت واضحة، تكفل حقوق الأيتام الذين يتزوج رجل غريب أمهم، أو تتزوج امرأة غريبة أباهم؟ وهل الشرعيون الذين ملأوا الدنيا فتاوى عن التكفير والارتداد يجدون النصوص والفتاوى التي تحتفظ بحق اليتيم، وتضع من يتنكر لحقوقهم تحت المساءلة الدائمة والحازمة، إلى حد أن تكون مبررًا للاتهام بخيانة الأمانة الزوجية.
من حق الأيتام على المجتمع وعلى الناس والأهل رعايتهم، مهما كان أبوهم أو أمهم، ومهما كان سبب يتمهم، فهؤلاء الأطفال أبرياء ولا ذنب لهم بهذه الحرب، ولا علاقة لهم بالأطراف المتقاتلة، بل إن امتداد هذا الصراع هو ما يتسبب بتيتيم المزيد من الأطفال وقذفهم في لجة الحرمان والفقر وقسوة الحياة بشكل مبكر وبما لا تحتمله طفولتهم البريئة!
ليست مسألة الأيتام مقتصرة على طرف دون آخر، ولا على فصيل دون آخر، فكلنا معرضون لترك أولادنا أيتامًا في أي لحظة من لحظات الحرب الدائرة، فالأيتام هم أبناء الثوار والمعتقلين الذين تمت تصفيتهم تحت التعذيب، وهم أبناء المؤيدين، وهم أبناء الانتهازيين من النظام ومن مدعي الثورة، وهم أبناء الدواعش، وهم أبناء كل أطياف الشعب السوري، وحتى من أبناء المقاتلين الأجانب، ولا يجب معاقبة اليتيم بما فعل أبوه، أو بما فعلته أمه، ولا إدخالهم في ماكينات الحساب والعقاب الوحشية التي تدمر سوريا والسوريين، فالقرآن الكريم واضح ولا لبس فيه: “فأمّا اليتيم فلا تقهر”.
تزداد أعداد الأيتام كل يوم، وهي لا تقل عن مليون يتيم، فالمنظمات الأهلية تورد، حتى منتصف عام 2015، إحصاءات عن وجود 800 ألف يتيم سوري، والمسجلون رسميًا منهم 475 ألف يتيم، والذين يحصلون على الرعاية الرسمية سواء في الداخل أو في الخارج لا تزيد نسبتهم عن 10%، ولا نظن أن المؤسسات الكافلة للأيتام قادرة حتى اليوم على رعاية أكثر من 5%، فكل الأرقام التي تصدرها المؤسسات الكافلة للأيتام متواضعة، لا تزيد عن مئة هنا ومئتين هناك، ولم تسجل إلا ضاحية في تركيا بنيت مؤخرًا للأيتام السوريين في الريحانية، قادرة على رعاية ألف يتيم دفعة واحدة.
هذا العدد من الأيتام يشكل منجمًا هائلًا من القوى البشرية المعرضة للتخريب وللانحراف على أيدي المافيات، أو عصابات الإرهاب الدينية، نتيجة الإهمال والظلم وأكل حقوقها، وسيغدو الكثير منهم مصدرًا للانتقام وللعنف المتجدد في المستقبل إن تم تجاهل وجودهم.
وفي المقابل فالأيتام أناس غير عاديين، خرج من بينهم أهم العباقرة عبر التاريخ في مجالات العلم، والأدب، والفن، والدين، وحوّلوا مسارات الإنسانية نحو الأفضل، فالكثير من الأنبياء كانوا إما أيتامًا او عاشوا بعيدًا عن أحد والديهم، ولعل رسولنا الكريم أفضل شاهد على عبقرية اليتيم، وعلى أهمية الاهتمام به وتنمية مواهبه، فقد كفله جده عبد المطلب، ومن بعد وفاته كفله عمه الفقير أبو طالب ليكون أحد أعظم الشخصيات في تاريخ العالم أجمع.
ولا بد من دعم النساء والرجال الذين يكرسون جزءً كبيرًا من جهودهم من أجل رعاية الأيتام، وخاصة الجدات والأجداد، والكثير من الأمهات، والأخوات، والأخوة، يضحون بمستقبلهم الخاص من أجل أفراد عائلتهم الأيتام، وإنقاذهم من طرق الضلال، وكذلك الكثير من أزواج الأمهات الأمناء على حقوق الأيتام، وزوجات الأب اللواتي يتغلبن على نوازع الغيرة ويربين الأيتام بإخلاص وبأمانة.
كيف نغيّر من قوانيننا ومن أعرافنا لنضمن حق اليتيم والعناية به، كيف ننقذ عشرات الألوف من الفتيات اليتيمات من الزواج المبكر في سن الطفولة، كيف نقوم بإنقاذ اليتيم من التنكيل، ومن مشاهدة التحرش بأمه الأرملة، أو بأخته الصغيرة، أو بجسده هو نفسه، ويقف غير قادر على حماية أهلة ولا حماية نفسه، فاليتيمة واليتيم ليسا غنائم للأقوياء، ولا هما مجال لممارسة المرجلة عليهما، ولا التبجح بأطفالنا أمامهما، فإذا كنا حريصين على بناء سوريا جديدة، وإعادة إعمار بلدنا، فيجب علينا أولًا ضمان حقوق مليون يتيم، وتربيتهم بشكل إنساني ولائق، وأن نخفف من معاناتهم العائلية مع زوج الأم، أو زوجة الأب، في حال عدم قدرتهم على تحمل أمانة الأيتام في أعناقهم. وأن نبعد المافيات والتنظيمات الإرهابية عن حياتهم، وبذلك نضمن بناء سوريا جديدة وعادلة وخالية من العنف ومن الإرهاب، وتعج بالمبدعين والمخترعين الذين امتصوا أهوال حياتهم الصعبة، وحوّلوا طاقتها السلبية إلى طاقة إيجابية بنّاءة، كما فعل العباقرة من العلماء، والفنانين، والأدباء، والأنبياء الأيتام عبر التاريخ!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :