سامي الحموي – إدلب
ليست ككل المدن، بل هي الأجمل كما وصفها الآراميون وأسموها أريحا (الأريج أو رائحة الزهور) بلغتهم البائدة، هي مدينة سورية عريقة وجميلة تتبع محافظة إدلب في شمال غرب سوريا، تحدها من الشمال مدينة إدلب، ومن الغرب مدينة جسر الشغور، ومن الجنوب مدينة معرة النعمان، وتعد من أشهر المناطق بزراعة الكرز والتين، يبلغ عدد سكانها بحدود السبعين ألف نسمة ويتبع لأريحا أكثر من خمسين بلدة وقرية وما يزيد على أربعين مزرعة وناحيتين.
لم تتأخر أريحا عن اللحاق بركب الثورة السورية فأعلنت انتفاضتها في الخامس عشر من نيسان لعام 2011 ولتنطلق الشرارة في عموم قرى جبل الزاوية التابعة لها، وتكون أول مدينة تحطم تمثال حافظ الأسد في محافظة إدلب، سارع النظام لارتكاب المجازر فيها مبكرًا، فكانت مجزرة المسطومة التي سقط فيها عشرات الشهداء والجرحى ردًا على محاولة أهالي المدينة الزحف نحو القرى المحاذية. ولموقع المدينة الاستراتيجي أهمية كبرى حيث أنها تقع على الأوتستراد الدولي الواصل بين حلب واللاذقية، وبناء على هذه المعطيات قرر النظام اقتحام المدينة فدخلها غازيًا في العاشر من حزيران لعام 2011 وفرض عليها طوقا أمنيًا، وحرم الأهالي من أدنى مستلزمات الحياة.
في السابع عشر من آب لعام 2013 أعلن الجيش الحر والفصائل المقاتلة عن بدء معركة «كسر القيود عن أريحا الصمود» بعد احتلال طويل للمدينة وإحكام قوات الأسد الخناق عليها وجعلها قاعدة عسكرية لعملياته في المنطقة، حيث تسلل الثوار فجرًا من الطرق الجبلية إلى المدينة وفاجئوا قوات الأسد وشبيحته بعملية غاية في التنظيم والسرية، حيث تمكن الثوار في اليوم الأول من تحرير نصف المدينة التي تحوي 16 حاجزًا لقوات الأسد، وسارت العمليات بنجاح حيث أعلنت أريحا مدينة محررة في الثالث والعشرين من آب للعام نفسه.
للوقوف على أهم ما شهدته أريحا إبان تحريرها تحدث الناشط الإعلامي «نور الدين الريحاوي» لجريدة عنب بلدي: «تم تحرير المدينة عدة مرات وكانت أريحا دائمًا تعاقب بالقتل والتدمير والمجازر حيث بلغ عدد شهدائها حتى اليوم ما يزيد عن الألف شهيد من المدينة، حيث كانت قذائف الغدر الأسدي تحصد عشرات الأرواح يوميًا، وبعد سيطرة الثوار على المدينة وتحريرها بالكامل كان عقاب المدينة هذه المرة قاسيًا جدًا حيث أسفر عن تدمير أكثر من نصف المدينة دمارًا كاملًا».
ويردف «الريحاوي» في شرحه عن الدمار الكبير الذي لحق بالمدينة قائلاً: «بلغ عدد الأحياء المدمرة عشرة أحياء وهي: حي غنيم، حي التل، حي سبلو، حي السوق، حي الغربي، حي الميدان، حي جب القاضي، حي المسلخ، حي العين، حي كفرنجد، كما تعرضت معظم مدارس المدينة لدمار جزئي باستثناء مدارس سبلو، الفنون، التجارة للإناث، المعلوماتية، حيث تعرضت لدمار كامل، أما باقي المؤسسات الخدمية في المدينة فتراوح تدميرها ما بين الجزئي والكامل».
أكثر من أربعمائة برميل ومائة وخمسين صاروخًا ومئات قذائف الهاون سقطت على المدينة مزهقة أرواح المئات من أبنائها، ومشردة عشرات الآلاف إلى القرى المجاورة ومخيمات النزوح في محاولة من النظام لاسترجاع المدينة الاستراتيجية، فكان له ذلك مع بداية شهر أيلول من العام نفسه، حيث لم يتمكن الثوار من الاحتفاظ بمواقعهم في المدينة وانسحبوا منها تحت وطأة القصف البربري الذي لم تشهده البلاد قبل ذلك.
عشرة آلاف مواطن عادوا إلى المدينة رغمًا عنهم بعد أن ضاقت بهم السبل وتقطعت الأوصال ليشهدوا على إجرامًا فاق الخيال، ومرارة عيش في مدينة أشباح أمست قاعدة للأسد وأعوانه من جديد، ولا يتوانى النظام عن ارتكاب الجرائم داخل المدينة، فقد وثق الناشطون العديد من حالات الاغتصاب للفتيات، وقامت ميليشياته بنبش أكثر من مائتي ضريح في مقبرة الشهداء لاستفزاز الأهالي وإجبارهم على سحب جثامين أبنائهم إلى مقبرة المدينة الرئيسية، عدا عن حالات الاعتقال اليومية حيث بلغ عدد المعتقلين من المدينة بحدود مائتي معتقل موثقين بالاسم.
لا يخفي أهالي أريحا شغفهم لنيل الحرية من جديد وعودتهم إلى بلدتهم المدمرة، معاهدين أنفسهم على المضي قدمًا في سبيل تحريرها ودفع الرخيص والغالي ثمنًا لغايةٍ يعتبرونها من أنبل الغايات الإنسانية.