هربًا من الموت إلى الموت، برميل يودي بحياة عائلة كاملة
عنب بلدي – العدد 102 – الأحد 2/2/2014
على وقع البراميل يخرج الحاج أبو ياسر سيد سيلمان هاربًا بزوجته وأبنائه وأحفاده إلى منطقة اعتقد أنها أكثر أمانًا من جحيم القصف، أو من برميل يخطئ الطريق نحو سقف بيته.
يوم الخميس 30 كانون الثاني كانت نهاية قصة عائلة أبو ياسر التي تسكن مدينة داريا، والتي لم يخرج أفرادها من المدينة رغم اشتداد الحملة العسكرية عليها، وانعدام كل مقومات الحياة فيها بعد أكثر من سنة على الحصار.
لم تغادر مروحيات الأسد سماء المدينة منذ الصباح الباكر في ذلك اليوم، غارة إثر غارة، وبرميل يتلوه آخر، وفي ظل غياب المضادات الجوية، يكتفي من بداخل المدينة بعدّ البراميل التي تلقيها المروحيات، ويسارعون لالتقاط صورة لبرميل يطير في السماء مترقبين مكان نزوله، ليهرعوا إلى المكان في محاولة إسعاف من قد يكون ضحية انفجاره، بينما يشق هو طريقه ليخطف أرواحًا مختبئة تحت سقف الوطن المشروخ.
هذه المرة كان البرميل أقرب إلى أبو ياسر وعائلته من المكان الذي يقصده، فقطع برميل الهاوي بسرعة صاروخية عليه الطريق، وحوله وأطفاله وأحفاده وأمهاتهم إلى ضحايا متناثرة تحت الأنقاض مبهمة المصير.. سارع المسعفون إلى انتشال جثامينهم من تحت ركام الأبنية التي خرت فوق رؤوسهم، لكن أرواحهم قد ضربت موعدًا مع الشهادة، فلم ينتظر أحدهم خبر أحد، كما لم يبك طفل على فقدان أمه وأخوته أو أم على أبنائها أو أب على فقدان عائلته بالكامل بل تداركهم الموت جميعًا في لحظة واحدة.
أبو ياسر وأم ياسر وأبنائهم يوسف وماريا وزينب، وفاطمة وأبنائها يامن وغيث، وتغريد زوجة ياسر، وحنين وسمير أبناء ياسر، كانوا جمعيعهم ضحية برميل واحد من تلك التي تتلقاها المدينة منذ أكثر من شهر، والتي قدر عددها خلال الأسبوع الماضي فقط بأكثر من 100 برميل.
انتظر أصغرهم، سمير ابن ياسر، ابن الثلاث سنوات عدة ساعات قبل اللحاق بأخوته، فقلبه الصغير بقي يخفق ببقايا حياة لم يسرقها البرميل كاملة، فحاول طبيب المشفى بمنفسة يدوية أن يحافظ على روحه بين ثنايا جسده عله يبقى ذكرى من عائلة صارت في عالم الآخرة، ولكن دون جدوى، فقد ضرب موعدًا مع أخوته.
أعمار الأطفال الذين لم يتجاوز أكبرهم العشر سنوات، لم تكن كفيلة لحمايتهم من البرميل الذي اخترق جدار الأمل الأخير للحياة بكرامة على أرض وطنهم.
ياسر أبو سمير، والد الأطفال والناجي الوحيد من العائلة، قتل أبوه وأمه وأخوته وأبناؤه عندما كان يحمي الآخرين، ويذود عن أرضه وعرضه، ولكنه لم يكن حصنًا لأطفاله من الموت القادم من السماء. يقول مقربون من أبو سمير أنه كان يقوم باصطحاب أبنائه سمير وحنين في أوقات الهدوء في المدينة بين الأحياء المدمرة ويداعبهم ويخفف من روعهم. وإنه عندما وصل إلى المشفى وأخبر بوفاة جميع العائلة تمالك أعصابه وتسابقت كلمات الحمد لله على لسانه، وكان يودع أبناءه وزوجته بمشهد يعجز المشاهد عن وصفه، كما يقول أحد المقربين منه في المدينة.
ويتابع.. يأتي أحدهم مواسيًا لأبي سمير وممازحًا، يخبره أنه عليه أن يذهب غدًا ليتابع القتال والذود عن المدينة، فيرد أبو سمير»نعم سأخرج غدًا لأتابع الطريق من دون تقاعس أو تقصير».
ويقول مدير المدرسة الباقية في المدينة أن ابتسامة هؤلاء الصغار كانت تخبر بمدى حيائهم، إذ كانوا من الأطفال المميزين باجتهادهم وحبهم للمدرسة.
وللابن الأكبر حسام، ابن سمير أبو ياسر، صاحب السبعة والعشرين عامًا حكاية أخرى، العريس الذي اعتقل منذ 13 أيار 2012 بعد أشهر من زواجه وكان ينتظر مولوده الأول، في ذلك اليوم فقد أباه واخوته وأولادهم وأمه التي طالما انتظرت خبرًا يبشرها بعودته.
يوم من الجحيم مر على داريا، 22 برميلًا تصب جام حقدها على المدينة وتخطف أحد عشر روحًا من عائلة واحدة.
على وقع هذه الفاجعة تعود بنا الذاكرة إلى الصاروخ الذي أودى بحياة الأخوة الثلاثة صبا مؤيد وأحمد زيادة وجدَهم، كما أردى أمهم وأباهم وأخاهم مصابين تحت الأنقاض، إثر تدمير منزلهم في الطابق الخامس، الذي هوى ركامًا إلى الأرض، وقبلها مجزرة آل شهاب التي قضى فيها سبعة من عائلة واحدة بقذيفة هاون عشوائية حطت في أرضهم بينما كانوا يزرعونها، كما لم يغب بعد مشهد الطفلين الأخوين اللذين يودع أحدهما أخاه على فراش الموت في المشفى قبل أسبوع بعد أن صرعه الموت.
لم تزل آلة الموت الأسدية تحلق في سماء داريا وأرضها وما تحت أرضها، ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم، تحصد ثمار الحياة قبل نضجها، وتلقي البراميل المتفجرة التي لا تبقي ولا تذر على رؤوس من آثر البقاء على الخروج.
حرب الإبادة الجماعية التي تتعرض لها مدينة داريا، بالبراميل والصواريخ والتجويع، هي حتمًا خارج نطاق مفاوضات جنيف-2، وخارج أسوار الهدنة التي يعرضها نظام الأسد على المدينة، إنها لغة التفاوض التي يتقنها الأسد، والذي يؤكد من خلالها أنه لا يجيد التحاور إلا بلغة الدم، وهو ما يؤكده ناشطو المدينة، الذين يقولون إن القصف «الهمجي الممنهج» ما هو إلا لإجبار الجيش الحر على الاستسلام، للحفاظ على أرواح المدنيين المتبقين في المدينة، والقبول بأدنى شروط الهدنة المفروضة عليها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :