إبراهيم العلوش
الاحتفاء بالتوحش سمة مشتركة بين تنظيمي داعش الديني، والبعث القومي، فكتاب إدارة التوحش لأحد منظري داعش يتطابق في الكثير من فصوله مع المنطلقات النظرية لحزب البعث. فكلا الكتابين قائمان على انتزاع السيادة من الناس من أجل تحقيق هدف سام ونبيل، سيرتقي بالبشر حالما يقومون بتسليم إرادتهم لقادتهم التاريخيين كما يدّعون.
فأبو بكر البغدادي خليفة يعيد منهج الإدارة الإسلامية كما يزعم، بطريقة بدائية، وبدون محتوى يتيح للناس أي مقدار للحرية، فكل شيء مكتوب في كتاب الله، ويعيد تفسيره الخليفة الذي وضع نفسه بديلًا عن كل المسلمين، من أقصى الأرض إلى أقصاها، فهو من يعيّن القضاة والقادة وأهل الحلّ والربط أو مجلس الشورى، ويتدخل في أصغر الأمور الشخصية، فيحق له تربية شاربيه في حين يحرم على رعاياه تربية الشاربين!
البعث أيضًا اعتمد ما يسمى التنظيم الانقلابي الذي ينتزع الإرادة من الناس بطريقة الانقلابات العسكرية المشرعنة ضد أي انتفاضة جماهيرية، أو حركة إصلاح سياسي، أو اقتصادي أو فكري مهما كانت واهنة، فأجهزة المخابرات هي التي تدير التوحش في المجتمع، وتعمل على تنميته واستثماره، لتأليب أتباعها على الأفكار والحركات التي تحاول أن تشق طريقًا جديدًا خارج منهاج عبادة القائد الخالد، وضد هيمنة الرأي الواحد، وضد التبعية الخارجية التي يستمد منها الأمين العام شرعيته، ويحصل منها على دباباته التي تحافظ على انقلاب دائم للبلاد على قفاها!
إدارة التوحش القاعدية تنتهج إخضاع المجتمع بالإرهاب المستدام والخوف على حياتهم وهم في الأسواق، أو أمام الأفران أو في حافلات النقل، في منهج يعتمد الغدر أساسًا لكل تصرفاته، فالمسلم المجاهد بنظرها هو الغدّار والخائن، وناكر الجميل ضد مجتمعه وأهله، أو ضد المجتمع الذي يستضيفه كلاجئ.
ففي الرقة حضّ التنظيم الكثير من منتسبيه على الوشاية بأهلهم وبأقاربهم وبجيرانهم، إن كانوا يدخنون، أو يشتمون الذات الإلهية، أو النبي الكريم أثناء غضبهم، وقد تسببت الكثير من هذه الوشايات بقتل آباء، وإخوة، وجيران، في انفلاتة التنظيم للانتقام من المجتمع الذي لا يؤيده، أو حتى من القطاعات الاجتماعية التي تقف على الحياد، فتنظيرات أبو بكر ناجي (مؤلّف كتاب إدارة التوحش) راسخة في اعتبار كل من ليسوا معنا مجرد كفار ومرتدين، مهما زينوا أنفسهم بالعبادات والأعمال الخيّرة، إذ يذكر الكتاب أن أحد الأمراء القريبين من فكر التنظيم القاعدي في مصر، قام بقتل الناس المارين في الشوارع بلا أي سؤال أو سبب، وضجّ الناس منه، حتى وصلت الشكاية لرؤسائه، الذين حققوا في الموضوع واكتشفوا صحة الاتهامات ضده، ولكنهم لم يدينوه وإنما فقط اكتفوا بلومه.
وقد قام التنظيم بأعمال التنكيل والاعتقال والذبح للجيش الحر، والمنشقين عن جيش النظام، فعلى حاجز أثريا بين الرقة وحماة، وصل عسكري منشق من جيش النظام بعد أسابيع من المعاناة على الحواجز، وعندما وصل إلى المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام نزل من الباص عند أول حاجز وركع يشكر الله على خلاصه، لكن أمير الحاجز الداعشي باغته، وضربه ببلطة كبيرة قطعت رأسه، في استعراض وحشي لإرهاب الركاب. وقد روى الحادثة العديد من أبناء الرقة نهاية عام 2013 في بدايات هيمنة داعش على الرقة.
المخابرات السورية عبر تاريخها أدارت مثل هذا التوحش، وإن كان بشكل أكثر إتقانًا، فتصفية المعتقلين، وطرد الكفاءات من الجيش، ومن الدوائر العامة، وإرغام الناس على عبادة القائد، والموافقة على توريث ابنه، هي دلائل على إدارة للتوحش، والذي ازدهر أخيرًا بهذه المقتلة الكبيرة التي تتعالى نيرانها، يومًا بعد يوم، لتشمل البشر والحجر، ولم تعد توفر حتى مسانديها وداعميها المتحمسين.
كان منهج نظام الحكم السوري هو الإبقاء على التوحش في مفاصل البلاد، وإدارته واستثماره بشكل مقنّن في البداية، فهي استثمرت الحاجة الاقتصادية في تجنيد المخبرين والأتباع، واستثمرت المعتقلين الإسلاميين في تجنيد بعضهم مرغمين على القيام بعمليات إرهابية في لبنان وفي العراق، وها هي تستثمر تنظيماتهم التي تطرفت تحت التعذيب الوحشي، ونتج منها الإرهاب العلني والمنفلت من عقاله، وكأن هذه التنظيمات تتصرف وآلة التعذيب فوق رأسها، مثلما كانت في السجون وفي المعتقلات الغاشمة، والتي غيبتهم عن العالم سنين طويلة، ومنعت أي تعاطف معهم ومع مأساتهم المستديمة منذ أحداث الثمانينيات، التي كانت أنجح عملية لإدارة التوحش، جربها النظام قبل أن يتعاظم هذا التوحش الذي يديره اليوم والذي فلت من زمان قادته وورطهم في محرقة جماعية تطال كل المجتمع السوري.
نظام الحكم المخابراتي هو أهم مؤسسة تستثمر في إدارة التوحش، وما هذا التطرف الذي وصل إلى حدود الجنون، إلا منتج من منتجات الاستبداد التي تودي بنا إلى الهلاك.
التوحش في المجتمع السوري تمت إدارته بإتقان اعتبارًا من توحش الحاجات البسيطة، كالحاجة إلى جرة الغاز، وربطة الخبز التي يبذل المواطن الفقير جلّ وقته، وتفكيره، ومشاعره، من أجل الحصول عليها ضمن أزمات مصطنعة ومدروسة لنشر عقلية الاستفراد والخلاص الفردي، ومنع المجتمع من أن يتضامن مع ضحاياه، من أجل مكاسب بسيطة كالحصول على برميل مازوت، أو الحصول على سيارة، أو على خط تلفون أرضي سابقًا، وانتهاء بإدارة هذا التوحش عبر الحواجز، والتهديد بالاعتقال في كل يوم، وصولًا إلى استجلاب الروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية، ومحاولة استثمار هذا التوحش بادعائه أنه يحارب الإرهاب بعد أن قتل نصف مليون سوري، وهجّر نصف سكان سوريا، فأي توحش يقارب مثل هذا التوحش، وأي استثمار مستدام لإدارة هذا التوحش!