عنب بلدي – العدد 101 – الأحد 26 كانون الثاني 2014
من البديهي أن يقف الإنسان مشدوهًا بهذا التقدم الذي حققه، إذ انتقل من الكهوف إلى ناطحات السحاب، ومن «التخلف» إلى «التحضر» ولكن إلى أي حد يمكننا اعتبار هذا التحضر حرية؟
يستحيل إنكار الازدواجية التي نعيشها اليوم بين أفكارنا وواقعنا! فالأفكار ثورية، تحمل نفحة من كنه إنسانيتنا ووجودنا الموباوي الرافض للظلم والذل والخضوع لرحمة «الحكام»، في حين أن الواقع يميل قطعًا إلى إلغاء أفكارنا وتشويهها واعتبارها إرهابا و «خروجًا عن الطاعة» وتطرفًا أحيانًا. ففي أوطاننا لا يجب أن ترفع رأسك عاليًا خوفًا عليها من الطيران.. في أوطان دستور الحرية والديمقراطية عليك أن تؤدي واجباتك وتصمت حين يأتي دور الحقوق، في أوطاننا أنت تعيش سعيًا «حرًا» لتأمين لقمة العيش لدرجة أنك قد تنسى أحيانًا من الذي يؤمن لك حريتك الدستورية المبهرجة، وحتى لو نمت جائعًا حافيًا عاريًا على الرصيف عليك أن تشكر الدولة الفاضلة لأنها أمنت لك رصيفًا معبدًا تنام عليه!
إن لسياسة أمركة العالم ثمن باهظ قد دفعه المواطن العربي منذ الاستقلال؛ فهي كحذاء جديد وصغير تحاول الأنظمة العربية انتعاله بكل جد غير مبالية بالألم الذي يحدثه فيها. هي صورة بلاستيكية مشوهة مزيفة تخفي وراءها كائنًا، بل كائنات، وأجيالًا معذبة أبعد ما تكون عن الإنسان المتحضر الحالي، بداخله يتصارع وجوده التقليدي وقيمه وحضارته مع هذه الهوية الدخيلة التي تحاول الاستحواذ عليه وتقمص ماهيته.
وكيف له أن يحيا بـ «كرامة» وهو قد أصبح شيئًا تباع حياته وتشترى تحت طاولات المؤتمرات. وما تراه يساوي وجوده أمام إنسان غربي يغرقه بفضلاته النووية ويستنزف ثرواته ليعيش في شقة فاخرة ويتركه هو تحت سقف مهترئ؟ فكثيرون هم الموجودون اليوم على سطح كوكبنا، لكن قلة هم الأحياء، هؤلاء الأموات قتلهم بنو جنسهم تحت لواء البقاء للأفضل. والطريف حقًا في الأمر أنهم يعتبرون هتلر مجرم حرب في حين أنهم يفعلون تمامًا ما فعله، ولكنه ببساطة كان أكثر منهم صراحة!
لذلك فالصحوة الثورية اليوم في عالم «عبيدهم» أو العالم العربي هي تهديد صريح لصرح الـ «ديمقراطية» الذي شيدته دول الغرب فوق كرامة دول العالم الثالث، كما يحلو لها تسميتها.
فديمقراطية أمريكا وغيرها وقوتها الاقتصادية الفذة ليست في حقيقة الأمر سوى نتيجة لجهودها المثمرة في خلق الفساد في المجتمعات العريقة عربية كانت أو لاتينية أو آسيوية من أجل سهولة السيطرة عليها وتنويمها مغناطيسيًا بخطابات ممنهجة وأنظمة تعليمية موجهة أساسًا إلى تغييب الشعوب عن الحقائق وتمييعها وإقناعها أنها تعيش الحرية المطلقة، في حين أنها في أعتى غياهب العبودية.
لنعد قليلًا إلى تاريخ أمريكا الـ «عظيمة» والتي هي بالأساس مكونة من اللصوص والخونة الذين تم نفيهم من أوروبا إلى الأرض الجديدة، وهذا ما يجعلنا نعي هذا الحقد الذي تحمله على الحضارات العريقة وسعيها إلى تدميرها، حيث أتلفت أقوى حضارات العالم وهي بابل (العراق)، ولن يفاجئنا أن تدمر مصر وسوريا وكل الدول العربية، فبقدر تفاجئها بالثورات كانت قدرتها على تطويعها لصالحها؛ فقد استفادت إلى أبعد الحدود من ثروات النفط في ليبيا وزرعت الفوضى في مصر ولازالت تبحث عما يمكن اغتنامه من سوريا!
فالخوف كل الخوف الآن مما سيؤول إليه هذا الانفجار الثوري. إن لكل منا طريقته في مواجهة ما سيأتي، ولكن الأهم هو أن نتخطى مرحلة الإنكار ونظرية المؤامرة التي نعيشها. ما حدث في تونس وفي ليبيا ومصر واليمن وسوريا اليوم هو ثورة، ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن المؤامرة تأتي بعد انتهاء الصراع وهذا ما علينا أن نخشاه ونتصدى له.
فالسؤال اليوم ليس «من نحن»، ولكن من نريد حقًا أن نكون.