أفتح عيني قبيل رنين المنبه، بعد سويعات من نوم مقلقل استيقظت خلاله مرارًا إثر كوابيس مؤلمة عن أصدقائي المعتقلين الذين انقطعت أخبار بعضهم، فيما جاءت أنباء مؤلمة أرجوها إشاعات عن بعضهم الآخر، وعن عائلتي التي توعد النظام بايذائها ما لم أسلم نفسي.
أصحو وأنطلق إلى الشاشة البراقة لأتابع عملي مستخدمًا الجهاز الحديث الذي لطالما تمنيت اقتناءه، إلا أن امتلاكه اليوم بات مسؤولية وعبئًا لا رفاهية ولا امتيازًا، مع فنجان «النسكافيه» الذي لم يعد له طعم بعد أن فقدت كل الذكريات التي ارتبطت به، منزلي، غرفتي، عجلتي كل صباح خوفًا من التأخر عن المحاضرة أو عن العمل.
أفقد إدراكي للوقت بينما أمضي أيامًا متواريًا في منزل لا يتردد عليه سوى صديق يزودني بالضرويات بين الحين والآخر، وبينما أتحاشى مغادرة المكان، أشعر بأنني أفقد شيئًا من إنسانيتي رويدًا رويدًا؛ إذ بدأت اعتاد الانقطاع عن التواصل المباشر مع الآخرين، حتى حديثي مع والدتي بات يقتضب مرة بعد أخرى، وتوقي لدعواتها بالرضى والسلامة غلبه خوفي من تهدج صوتها وأنين نشيجها حين أحدثها.
انطلق اليوم «تهريبًا» إلى منطقة أخرى، خائفًا ومترقبًا، مشتاقًا للانتقال في الزحام بين وجوه وآلفها –وإن لم أعرف أصحابها— مفضلًا ذلك على التواري في سيارة فارهة مع تاجر الحرب الذي استغل امتيازاته وبطاقته الأمنية ليغنم بضع آلاف الليرات مقابل نقلي بضع كيلومترات إلى وجهتي الجديدة، وبداخلي خوف من أن يسلمني لمرؤوسيه مقابل ترقية ما أو «تبيض وش»، أو مقابل بضعة آلاف أخرى.
يمر شريط من الذكريات أمامي بينما تمر السيارة على عجل –أو لربما حسبتها كذلك- أمام الحديقة التي اعتدت وعائلتي الذهاب إليها، ومن الشارع الذي مشيته مرارًا متجنبًا الزحام، ومن المقهى الصاخب الذي شهد جلسات طالت مع أصدقائي، تابعنا خلالها مباريات كرة القدم مهتمين بنتائجها أكثر من اهتمامنا بامتحانات الجامعة. أما الآن فقد احتلت متاريس حواجز النظام جزءًا كبيرًا من الشارع، بينما تخلى عن الحديقة معظم روادها، وبدا لي المقهى شاحبًا وقد خلت معظم طاولاته، وترتسم على وجهي ابتسامة ساخرة حين أدرك كيف أنني لا أعلم أي الفرق هو بطل الدوري هذا الموسم، تليها غصة حارقة حين أفكر في أصدقائي؛ معظمهم غادر خوفًا على حياته وساعيًا للرزق، أو متطلعًا لمستقبل «أحسن من هالعيشة» التي أقلقت راحته و»كركبت» مخططاته، واحدهم معتقل، والآخر تخلى عن صحبتنا نهائيًا إثر تأييدي للثورة وانخراطي في النشاط الثوري.
انتقل من غربة إلى أخرى ضمن حدود وطني، وأخوض صراعًا بعد آخر مع نفسي في كل موقف تتماهى فيه حدود الخطأ والصواب، وتجتاحني آلام ونكسات توقفني عن العمل، وتنأى بي بعيدًا عما تبقى فيّ من نفس الحياة، لتعود صور الشهداء، ممن عرفتهم شخصيًا ومن لم أعرف عنهم سوى ما سمعته عن مآثرهم ورأيته من أفعالهم وممن لم تجمعني بهم سوى لقاءات خاطفة وأسماء وهمية، فتذكرني بمسؤوليتي تجاههم بمتابعة ما بدؤوه، وتبث ذكراهم فيّ أملًا من جديد، يقينهم بأن القادم –وإن بَعُد- لا بد أفضل، إنما بأيدينا.