حذام زهور عدي
المتأمّل للخارطة اللبنانية، يلاحظ بوضوح أنها اقتطاع مفتعل من أرض بلاد الشام أو سوريا الطبيعية، فسوريا تحيط بلبنان هذا إحاطة السوار بالمعصم، ولا وجود لحدود غير سوريا شرقًا وشمالًا وإلى حدٍ ما جنوبًا، مع شريط صغير كان سوريًا ثم اقتطعته إسرائيل مع نهاية الأربعينيات، ووسعته مع احتلالها للجولان بعد هزيمة 1967، ولم يبق للبنان إلا البحر المتوسط كحدود غربية.
جعل ذلك حزب الله يتنبه لخطورة تلك الحدود التي تُخفي وراءها كتلًا سكانية قد تكون معادية لمشروعه في إقامة دولته المستقبلية، وخاصة إذا تواصلت مع الكتل السكانية اللبنانية المعادية له أو المختلفة معه باستراتيجية الهيمنة على الدولة اللبنانية، ما يفشل تحويلها إلى إمارة تابعة لسلطة الولي الفقيه الإيراني، كما صرح نصر الله في خطبه أكثر من مرة منذ أن شكل هذا الحزب إلى أن استوى مطمئنًا على عرش الطائفة الشيعية اللبنانية، وأوحى لها بأنها قادرة من خلال ولائها لولي إيران، بالهيمنة على الشرق الأوسط كله.
منذ ذلك الوقت كان يعمل جاهدًا لتغيير اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، تارة باسم التغير العددي لطائفته التي يفترض حصولها على نفوذ أوسع يتناسب مع عددها وقوتها الجديدة، وأخرى بتهديد الطوائف الأخرى بسلاحه الذي استطاع إدخاله إلى لبنان بحجة قتال إسرائيل، واضعًا كل من يقاوم إدخاله تحت لافتة الخيانة والتآمر مع العدو، كما حدث في هجومه المعروف على سُنة بيروت ودروز الجبل القريب جغرافيًا من أمكنة نفوذه.
لم يستطع الحزب تغيير اتفاق الطائف رسميًا، وقانونيًا، ولا بالتهديد والوعيد وإبراز السلاح، فعمد إلى تعطيل الدولة اللبنانية من خلال الثلث المعطل الذي فرضه في اتفاق الدوحة على الطوائف اللبنانية الأخرى، ومن خلال اعتصامه الشهير وسط بيروت، الذي رافقه سلاحه، ما دفع القوى الأمنية للدولة اللبنانية إلى الانسحاب وعدم مواجهته بالسلاح، حتى لا تُعاد الحرب الأهلية بشكل أكبر وتقضي على ما تبقى من لبنان.
لكن حزب الله لم يستسلم لعدم نجاحه بتغيير الطائف سياسيًا فقرر تجميده بفرض وقائع جديدة، معتمدًا على ترعيب الآخرين بقوة سلاحه المعد “لمقاومة” إسرائيل، ولجيش “المقاومة والممانعة”، الذي يدربه يوميًا على الطاعة المطلقة لاستراتيجيته في امتلاك زمام الدولة اللبنانية، ولعشرات الأقنية الإعلامية.
وهكذا فرض الحزب الرئيس اللبناني الجديد المتحالف معه، بعد استعراض قوته في تعطيل انتخاب رئيس حوالي السنتين، وتعطيل تفعيل البرلمان من خلال رئيسه المتحالف طائفيًا معه أيضًا، ومضى يُكمل مشوار امتلاك الدولة اللبنانية وتعديل حدودها بضمان أمن وجوده في محيط حدودها السورية، فاستغل الثورة وحاجة النظام السوري لمن يدافع عنه ويُثبته على العرش السوري، وراح يرسم حدود دولته القادمة بقضم الأرض السورية وتغيير الكتلة السكانية التي يعتقد أن الخطر المقبل على دولته قد يأتي منها، وبالوقت نفسه يحاصر من خلال هذا التغيير الكتل السكانية اللبنانية التي قد تقف ضد مشروعه، فيشل حرية قرارها من خلال الرعب وسيطرته على المرتفعات الطبيعية التي كانت تحمي ظهرها وتسمح لها بالتحالف مع القوى السورية التي كانت تنتشر في تلك المرتفعات.
واليوم عندما يُعلن السيد حسن انسحابه من بعض النقاط اللبنانية المحاذية للحدود السورية في القلمون تحديدًا، مع احتفاظه بنقاط أخرى، وهذا لا يعني سوى أحد احتمالات ثلاثة: إما أن التغيير الديموغرافي في المناطق السورية قد ضمن له عدم اتصال تلك الكتل غير الموالية له مع بعضها، أو أن الكتلة اللبنانية قد ضاقت ذرعًا به وبحزبه، فحسب حسابه بإمكانية مقاومة مسلحة له تُدخله بمغاور خطرة، أو أن مقتلة سورية قد جعلته من الضعف بحيث يريد تجميع قوته بعد أن فاحت رائحة التهديدات الإسرائيلية وتفاوضه مع الأمريكي الذي جرى مؤخرًا في بيروت على الانسحاب، متظاهرًا بانتهاء المهمة الذي كلفه فيها الولي الفقيه.
بكل الأحوال فإن تساؤلات كثيرة ماتزال تُطل برأسها من خلف “هوبرات” السيد حسن، فهل الولي الفقيه هو من طلب منه الإعلان عن ذلك الموقف نتيجة اتفاق روسي إيراني أمريكي، غير معلن؟ وهل هذا الموقف على محدوديته هو مقدمة لانسحاب قادم فرضته الدول الإقليمية؟ أم هو تكتيك أراد منه طمأنة الطوائف اللبنانية بعدما حقق محاصرتها عسكريًا من خلال شراء أراضي المسيحيين اللبنانيين الجنوبيين والامتداد العسكري الشمالي ليكتمل قوس ذلك الحصار؟
أم استشعر تبدّل وجهة رياح السياسة الدولية ونصحه أصدقاؤه أن الوقت الآن هو أفضل الأوقات لإسرائيل لتصفيته، بعدما أُثخنت جراحه بالتورط السوري، وعليه تجميع قوته للمعركة الفاصلة الجنوبية، لكن هذه المرة دون أي تعاطف عربي قريب أو بعيد، وعليه أن يحصد اليوم الزيوان الذي زرعه الولي الفقيه، وملأه غرورًا وعنجهية، وفضحته أيادي ثوار سوريا وأظهرت هشاشته، وأنه لم يكن أكثر من نمر ورقي؟
ننتظر لنرى، وما كنا نتمنى له مثل هذه النهايات التي رسمها لنفسه.