ما أن أُقرت خطة أستانة في خصوص مناطق “خفض التصعيد” حتى بدأت تتوالى أخبار هجوم قوات النظام على بعضها، ذلك كان متوقعاً بالقياس إلى تجارب سابقة، آخرها كان اتفاق التهدئة الذي رعاه الثلاثي الروسي-التركي-الإيراني. وكما هو معلوم يتفادى الحلف الروسي-الإيراني استخدام تعبير “وقف إطلاق النار” أو “الهدنة” لما يتضمناه قانونياً من وقف تام للهجمات، والإبقاء على استثناء التنظيمات الإرهابية مما يُسمى تهدئة يعني الاحتفاظ بحق مهاجمة الجميع، طالما لم يأتِ الاتفاق ضمن تفاهم حقيقي أوسع على تمكين ما يُسمى المعارضة المعتدلة من السيطرة على مناطقها وإدارتها.
أهم ما سجله اتفاق “خفض التوتر” هذا عودة الدفء إلى الاتصالات الروسية-الأميركية في الشأن السوري، بعد تصريحات أميركية حادة حول مصير عائلة الأسد، وأيضاً تصريحات بدت جدية حول إقامة مناطق آمنة. الأمر الذي استدعى تحركاً روسياً سريعاً لامتصاص الغضب الأميركي، مع المراهنة على كونه انفعالاً آنياً بالنظر إلى طبيعة ترامب الشخصية، والتعويل على تراجعه عن موقفه أسوة بتراجعه عن مواقف أخرى أكثر حساسية للأمن القومي مثل العلاقة مع الصين والمكسيك وكندا.
بحسب ما نقلت وسائل الإعلام، عندما طرح وزير الخارجية الأميركي رحيل عائلة الأسد على لافروف، تساءل الأخير عن البديل، وهو تساؤل واظب المذكور على طرحه منذ سنوات، وفي كل مرة يسرّبُ الإعلام الروسي صمت الطرف الآخر في دلالة العجز على الرد. فحوى هذه التسريبات ألا وجود لبديل عن عائلة الأسد، وأن ثبات الموقف الروسي على القول بأن موسكو لا تدعم شخصاً، بل تدعم من منظورها دولة ومؤسسات، والتمسك بالأسد في الوقت نفسه لا يحمل تناقضاً، لأن موسكو أعلم بغيرها أنها سوريا الأسد حقاً، وأن أي كلام آخر عن الفصل بينهما هو كلام نظري يمكن تفنيده بسهولة.
لقد استُهلك كلام كثير في السنوات الماضية لتفنيد السؤال عن البديل، انطلاقاً من سهولة القول بوجود ملايين السوريين أقل إجراماً ووحشية وفساداً من النظام الحالي، وبينهم من هو مؤهل لتولي المناصب بجدارة تفوق على نحو مؤكد مَن لم يكن له أية جدارة باستثناء وراثته السلطة. قيل كلام كثير عن تسبب المعارضة في نفور المجتمع الدولي من الثورة، وقيل كلام آخر عن اتخاذ قصة البديل ذريعة لمنع التغيير في سوريا، انطلاقاً من أن البديل المعنيّ هو وجود معارضة تتمتع بصدقية كافية أمام المجتمع الدولي. على ذلك، لم يشهد حال المعارضة استقراراً، وكأنها كانت طوال الوقت، فوق علاتها، حقل تجريب على نية الوصول إلى صيغة ترضي داعميها الإقليميين وتحظى برضا مجتمع دولي يزداد نأياً عنها.
نظرياً، سيبدو أحطّ ما في الكلام عن البديل القول بوقوع الفوضى والحرب الأهلية بديلاً، وكأن قائليه لا يرون الحرب المدمرة الحالية، ولا العدد الهائل من الميليشيات التي تقاتل مع النظام أو ضده. التحذير من التجربة العراقية يظهر كمزحة سخيفة جداً، لأن الواقع السوري والثمن المدفوع حتى الآن تجاوزا التحذير الشهير، من دون أن يتزحزح أصحابه عنه. حتى التحذير من سيطرة تنظيمات إسلامية لا يبدو منسجماً مع عدم قدرة النظام على التصدي لها، رغم دعمه بعشرات المليشيات الشيعية، ما استدعى تدخلاً مباشراً من قبل التحالف الدولي.
إذاً يلزم أن نتخلى عن الحديث عن سوريا بمفهومها المستقل كبلد في معرض التحليل والتفنيد، وأن نقرّ بأن الحديث كله يدور عن “سوريا الأسد”، كما روّج لها النظام طوال عقود وكما يراها أصحاب نظرية البديل. ففي “سوريا الأسد” سؤال البديل المطروح هو التالي: هل يمكن الحفاظ على النظام إذا ضحينا برأسه؟ أم أن هذا غير ممكن قطعاً بالمقارنة مع عراق صدام حسين؟
الإجابة الروسية والإيرانية حاسمة بالقول أن رحيل عائلة الأسد يعني سقوط النظام تلقائياً، أما فرضية العثور على بديل من خارج العائلة فهي غير ممكنة، لا بسبب صعوبة العثور على شخص من هذا القبيل، وإنما لأن أي شخص جديد لن يتمتع بالقدرة على طمأنة نظام تمحور أساساً على عائلة الأسد، وسيتداعى حكماً بنهايتها. بهذا المعنى، لا وجود حقاً لبديل عن عائلة الأسد، ولن يكون هناك بديل إطلاقاً إلا في حالتين؛ أن يقرر المجتمع الدولي نهاية النظام ككل، أو أن يفرض انتداباً يفك قسرياً معادلة “سوريا الأسد”، ويعيد “قسرياً أيضاً” تأهيل النظام بحيث يعمل بمعزل عن العائلة التي صممته.
في الواقع أغلب المحاولات الدولية والعربية حتى الآن إنصب على أن تقبل موسكو بفكرة الانتداب هذه، وأن تعيد تأهيل النظام من دون عائلة الأسد. لكن موسكو درجت على بيع كلام من نوع عدم تمسكها ببشار شخصياً، مع الاستدراك بعدم إمكانية المحافظة على النظام بدونه. الإلحاح على هذه المحاولات من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية، ولو كانت الأخيرة مكرهة بحكم التوجه الأميركي، لا يعني سوى المراوحة في المكان ذاته، ومنح موسكو فرصة تلو الأخرى كي تثبّت نفوذها ورؤيتها الخاصة ببقاء الأسد، وهذا ما يعنيه أيضاً اتفاق من نوع “خفض التصعيد”، أي إتاحة فرصة إضافية لتمكين نظام عائلة الأسد.
دور المعارضة في أحسن هذه التصورات لا يتعدى إستخدامها للضغط على النظام وحلفائه من أجل انتزاع رأسه، ثم المشاركة في إنعاش الجسد وجعله قابلاً للحياة. وعلى رغم ما في الثمن المدفوع سورياً من غبن قد نجد قبولاً لا يُستهان به لهذه الصيغة، وجزء منه قبول على أرضية إدراك عدم إمكانية حياة الجسد بعد قطع الرأس. إلا أن التورط في هذه الصيغة يُفترض أن يكون على أرضية غير تلك التي يقترحها حلفاء رأس النظام ويوافق عليها قسم كبير من “أصدقاء” المعارضة، إذ يجوز للأخيرة مساءلة الجميع عن البديل المنتظر ضمن النظام نفسه، حيث يعلم الجميع أن المفاوضات الحالية والمستقبلية لا معنى لها في غياب بديل ضمن النظام باستثناء قبول المعارضة بالنظام نفسه وبعائلة الأسد أيضاً.
في الواقع لا يملك لافروف ولا الدبلوماسية الروسية ذلك الدهاء الذي يُراد لنا الاقتناع به، وليس سؤاله عن البديل وصمت مفاوضيه “إذا صحت رواية الإعلام الروسي” سوى تعبير عن تفاهم أعمق من الخلاف على مصير عائلة الأسد. سؤال لافروف لا ينتمي أصلاً إلى حقل السياسة بوصفها فن ابتكار البدائل، ويكفي لكشف سطحيته وجود ضغط مقابل يُفهم بوتين تصميم المجتمع الدولي على التغيير، ومطالبته هو بأن يجيب عن سؤال البديل.