عنب بلدي – فريق التحقيقات
لم يكن تمسّك حلفاء النظام بمصطلح سيادة سوريا، أقل من مؤسساته وإعلامه الرسمي والشخصيات التي تنتمي إليه، إذ تساوت إلى حدٍ ما الدعوات إلى احترام وحدة أراضي “الجمهورية العربية السورية”، كدولة موحدة سياسيًا وجغرافيًا، فكان المصطلح سيد الموقف في المحافل الدولية والمحلية.
وشغلت “السيادة” من روسيا وإيران و”حزب الله” اللبناني، حيزًا في عبارات الاحتجاج على الضربة الأمريكية الأخيرة، نيسان الماضي، إضافة إلى الاستهدافات المتكررة التي تنفذها إسرائيل في محيط دمشق، في وقت تتخذ تلك القوى سوريا، مسرحًا لعملياتها الجوية والبرية، منتهكة بذلك، المعنى الفعلي للمصطلح نفسه.
التأكيد على وحدة الأراضي السورية، وتجنب خلق ظروف غير قابلة للتغيير على الأرض، كان بدوره بندًا ضمن مطالب وفد فصائل المعارضة، في المرحلة الرابعة من أستانة، إلا أن الواقع الميداني هدم سقف السيادة منذ عام 2012، مع استقدام النظام للميليشيات الرديفة التي كانت القوى الأبرز إلى جانبه في المعارك ومازالت حتى اليوم.
تعرض عنب بلدي في هذا الملف، توزّع السيطرة للقوى المختلفة في سوريا، ونقاط التدخلات الدولية والإقليمية كقواعد عسكرية أو قواتٍ برية، معتمدة على رؤية سياسيين وعسكريين حول السيادة في سوريا، واستقراء مستقبل البلاد في ظل التطورات المتسارعة على الأرض.
جنوب سوريا نحو “اللامركزية“
مع ازدياد التداخلات الدولية في سوريا، خرجت جميع مناطق الشمال والجنوب عن سيطرة النظام في دمشق، بينما اقتصرت سيادته “المنقوصة”، على مدن رئيسية في الساحل والمنطقة الوسطى علاوة على العاصمة.
وتقاسمت دول غربية وعربية، أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا وتركيا والأردن وإسرائيل، النفوذ العسكري شمالًا وجنوبًا، ميدانيًا على الأرض، أو من خلال الهيمنة الجوية والصاروخية، فضلًا عن دعم فصائل مسلحة تأسست على أنقاض الفراغ الأمني والإداري للنظام.
وتشمل هذه المنطقة محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، وصولًا إلى البادية السورية، ورغم وجود ضئيل نسبيًا للنظام السوري في المحافظات الثلاث، إلا أنه بات فعليًا خارج المعادلة، في ظل نفوذ دول وقوى إقليمية في النقاط المحاذية للجولان المحتل من قبل إسرائيل.
تخضع مساحاتٌ واسعة من محافظتي درعا والقنيطرة، لسيطرة فصائل معارضة تتلقى دعمًا من غرفة “تنسيق العمليات العسكرية”(الموك)، المكونة من دول غربية وعربية أبرزها: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والإمارات المتحدة، والأردن.
لكن الجارة الجنوبية، الأردن، تقود النفوذ الأمني والاستخباراتي فيها، من خلال علاقاتها القوية مع فصائل “الجبهة الجنوبية” في “الجيش الحر”، وتغلغلها ضمن المناطق الحدودية بين البلدين، بينما تُفكّر اليوم بإنشاء قاعدة جوية محاذية للأراضي السورية، في مسعىً للتدخل عسكريًا ضد “جيش خالد بن الوليد”، المتهم بارتباطه بتنظيم “الدولة الإسلامية”.
السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، تبدو ظاهريًا تحت سيطرة النظام، لكنها فعليًا باتت تحكم من قبل لجان شعبية أسسها رجال دين دروز، وشهدت مؤخرًا صدامات بين اللجان وقوات الأسد وأجهزته الأمنية، في مؤشر ينذر بخروج المحافظة كليًا عن “سيادة” دمشق، وربما دخولها في مشروع حكم فيدرالي لامركزي، دعت له أطراف معارضة قبل أشهر، ينسحب على القنيطرة ودرعا وقوبل بتأييد إسرائيلي.
امتداد الريف الشرقي للسويداء، وصولًا إلى منطقة التنف الحدودية مع الأردن في البادية السورية، بات تحت وصاية الولايات المتحدة وبريطانيا والأردن، إذ تدعم تلك الدول فصائل في “الجيش الحر”، ضد تنظيم “الدولة”، وصولًا إلى منطقة البوكمال في محافظة دير الزور، وبالتالي “تطهير” كامل الشريط الحدودي مع الأردن من التنظيم.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن هذه القوى، تؤسس لوجود مديد لها في المنطقة، من خلال إنشاء قاعدة عسكرية تديرها قوات بريطانية وأمريكية في التنف، إلى جانب حديث أردني عن تأسيس قاعدة جوية مجاورة، كما أسلفنا سابقًا.
تفاصيل الشمال السوري المعقدة
يمتد الشمال السوري من شمال شرق الحسكة، قرب تقاطع الحدود السورية مع العراق وتركيا، إلى شمال غرب حلب، بمحاذاة الحدود مع أنقرة، وهي منطقة شاسعة تعادل مساحة ثلث سوريا تقريبًا، كما أنها لا تشهد حضورًا لقوات الأسد، باستثناء مؤسساتٍ أمنية وخدمية في الحسكة والقامشلي.
وابتداءً من محافظة الحسكة، وصولًا إلى ريف الرقة الشمالي والغربي، وانتهاءً بمنطقتي عين العرب (كوباني)، ومنبج في ريف حلب الشرقي، تخضع جميع هذه المناطق لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تهيمن عليها “وحدات حماية الشعب” الكردية، المدعومة بريًا وجويًا من قبل “التحالف الدولي”، الذي تقوده الولايات المتحدة.
أنشأت واشنطن في هذه المنطقة قواعد عسكرية جوية وبرية، ولا سيما في منطقة الرميلان شمال الحسكة، و”كوباني” في ريف حلب الشرقي، وعين عيسى في ريف الرقة الشمالي، مع حديث عن احتمالية إنشاء قواعد مشابهة من قبل فرنسا وبريطانيا، الدولتين المشاركتين في التحالف.
وتحظى تلك الرقعة بإدارة ذاتية فرضها “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، وأعلنها منطقة “فيدرالية” تحظى بحكم ذاتي، وتتبع إداريًا للدولة السورية، في تمهيد ودعم يعكس احتمال أن يكون نظام الحكم المستقبلي في سوريا فيدراليًا.
ومن حدود منبج الغربية، مرورًا بجرابلس ووصولًا إلى مدينة اعزاز شمال حلب، وبعمق وصل قبل أشهر قليلة إلى مدينة الباب، تخضع هذه المنطقة سياسيًا وعسكريًا لتركيا، بعد تدخلها البري والجوي ضد تنظيم “الدولة”، ضمن معركة “درع الفرات”، والتي دعمت فيها فصائل من “الجيش الحر”، في خطوة استباقية لتقدم قوات “قسد” إليها، والسيطرة الكاملة على الشمال السوري.
شمال غرب حلب، تخضع منطقة عفرين لسيطرة “قسد”، وصولًا إلى مدينة تل رفعت وبلدة منغ المجاورة في ريف حلب الشمالي، وشهدت نفوذًا روسيًا في الآونة الأخيرة، فيما بدا أنها خطوات استباقية، لتدخل عسكري محتمل للأتراك، مع حديث عن إنشاء قاعدة عسكرية روسية في منطقة كفرجنة بريف عفرين.
هيمنة روسية على حلب
لم تمض أيام على سيطرة قوات الأسد والميليشيات الرديفة، على كامل مدينة حلب بدعم روسي، في كانون الأول 2016، حتى وزّعت موسكو قواتها العسكرية داخلها، تحت مسمى “الشرطة الروسية”، في خطوة عزتها لـ “ضمان الأمن والاستقرار” داخل المدينة.
وأبرزت التطورات على الأرض هيمنة روسية، على مفاصل الحياة اليومية والعسكرية في حلب، مع تقلّص سيادة الأسد عليها، ومحاولات موسكو طرد الميليشيات الإيرانية منها.
وهذا ما جاء صراحة على لسان المبعوث الروسي إلى أستانة، وقال إن الحديث عن انسحاب القوات الخاضعة لإيران من سوريا، “ممكن بعد تثبيت هدنة مستقرة”، وتوقع محللون في حديثٍ إلى عنب بلدي أن “يأتي الدور على النظام عندما تضمن روسيا أن مصالحها لن تتأثر”.
وتوغّلت روسيا في مفاصل حلب، فوزعت عناصر الهندسة الخاصة بها، لتفكيك الألغام في الأحياء الشرقية، التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة، كما بدأت تدريب عناصر من قوات الأسد، إضافة إلى نشرها فرقًا إنسانية وطبية ومدنية، وسط غياب شبه كامل لـ “جيش الأسد”، وميليشياته، التي كان لها الدور الأبرز في استعادة المدينة.
إسرائيل تنتهك “السيادة” وإيران تتمدّد
للمرة الأولى خلال العقود الماضية، رد النظام السوري على انتهاك إسرائيل المتكرر لـ “سيادة” سوريا، مستهدفًا قاعدة عسكرية لـ “العدو” بصواريخ بعيدة المدى، آذار الماضي، إلا أنها جاءت متأخرة، فرغم تأكيد النظام على إسقاط طائرة وإصابة أخرى، نفت تل أبيب ذلك، مؤكدة أن دفاعاتها “تصدت للصواريخ وأبطلت مفعولها”.
ردُّ النظام جاء على خلفية استهداف إسرائيل، قافلة أسلحة كانت متوجهة إلى “حزب الله” اللبناني، بينما تكرر استهداف مواقع في محيط العاصمة دمشق، آخرها فجر الخميس 27 نيسان، واعترفت قوات الأسد بأنها تسببت بـ “خسائر مادية”، في بيان رسمي، رغم أن مصادر عنب بلدي، أكدت أن المطار الدولي شرق العاصمة، بات منذ عام 2013 تحت وصاية الإيرانيين، والوجهة الأولى للميليشيات الإيرانية والأفغانية والباكستانية والعراقية التابعة لـ “الحرس الثوري”.
المقامات الدينية في العاصمة دمشق، وخصوصًا في منطقة السيدة زينب جنوبها، تحوّلت خلال العامين الماضيين، لمقر أساسي للزوار والميليشيات الشيعية، وخاصة من إيران والعراق، ووفق تقارير أعدها ناشطون من قلب العاصمة، فقد تولت تلك الميليشيات إدارتها وتنظيمها بدلًا عن النظام، “صاحب السيادة” في سوريا.
وغدت المنطقة “مقاطعة إيرانية” بامتياز، كما زاد نفوذ طهران غرب العاصمة، بعد أن أخلت المعارضة مواقعها هناك، بدءًا بتهجير بلدات القلمون الغربي، ثم أهالي مدينة داريا، آب 2016، وصولًا إلى مناطق قدسيا والهامة والتل ومنطقة وادي بردى، وأخيرًا الزبداني ومضايا، العام الحالي، التي جاءت ضمن صفقة أساسها إيران.
تنظيم “الدولة” ينحسر شرقًا
انتقالًا إلى الخاصرة الشرقية من سوريا، والتي فقد فيها النظام السوري كامل محطات “سيادته” منذ العام الأول للثورة، مازال تنظيم “الدولة” نشطًا، إذ يُحكم سيطرته حتى اليوم على الرقة والقرى المحيطة بها، بينما تسعى “قسد” لانتزاعها من التنظيم، وسط غياب شبه كامل لقوات الأسد.
يبرز نفوذ التنظيم في ريف حلب الشرقي أيضًا، بينما تخضع مساحات واسعة من محافظة دير الزور لسيطرته منذ عام 2014، بينما يُحكم النظام سيطرته على بعض الأحياء، إلى جانب المطار العسكري والجبال والقطع العسكرية المحيطة به.
ويسعى تنظيم “الدولة” لتوسيع رقعة سيطرته هناك، كخطوة لتحصين نقاط تمركزه، في حال سيطرت “قسد” على الرقة، عدا عن محاولاتِ تقدّمه جنوب الحسكة، للظهور بموقف المتحكم بالمنطقة الشرقية لسوريا.
عنب بلدي توجهت بالحديث إلى المحلل العسكري، العقيد الطيّار حاتم الراوي، للوقوف على مستقبل المنطقة، وقال إن التحرك يجري بشكل متزامن، شرق سوريا والمنطقة الغربية من العراق، معتبرًا أنه “يتوجه نحو مناطق السنة بامتياز”.
ينحسر انتشار التنظيم في الموصل، التي كانت أكبر معاقلها في العراق، وأشار الراوي إلى أنه رغم ضعف “قسد”، التي تتقدم بدعم أمريكي في المنطقة، “إلا أنها استطاعت فرض التفاوض على داعش”، متوقعًا أن تنسحب الحالة على كامل المنطقة خلال الأيام المقبلة، “وبعد إعادة ترسيم الحدود في المنطقة بين العراق وسوريا، ستكون المنطقة الشرقية لأهلها وليس لغيرهم”.
إيران والنظام أول من خرق”السيادة”
المسؤول الأول عن اختراق أقاليم: لبنان والعراق وسوريا واليمن هي إيران، وفق رؤية الراوي، “فمنذ قدوم الخميني عام 1979، الذي اختطف الربيع الفارسي وحوله إلى ولاية الفقيه، تعيش إيران إيديولوجية العصابة، والتي لا تستيطع العيش إلا في المناطق غير المستقرة وآخرها سوريا”.
وقال العقيد الطيّار، إن إيران حاولت دخول العراق منذ سنوات ولم تستطع، ثم استغلت الصراع اللبناني، وأسست “حزب الله” كقاعدة لها واخترقت سيادة لبنان، مشيرًا إلى أن غياب الاستقرار عن سوريا، جلب طهران إليها، وساهم النظام بدخول ميليشياتها، إضافة إلى المقاتلين الأجانب، “فكان أول جهة خرقت سيادة سوريا، إذ لم يعد فيها شبر واحد لم تعبث به الأصابع الأجنبية”.
“كان الأولى بالنظام أن يقول في بداية الثورة، إن سوريا دولة صغيرة، أتيحت الفرصة أمام الجميع للعب بها، فذلك أشرف وأحفظ لماء الوجه”، بحسب تعبير الراوي، الذي اعتبر أن النظام “مايزال يعزف مقطوعة السيادة الوطنية، ولكن هذا معيب”، متسائلًا “عن أي سيادة يتحدث؟”.
ولم يُغفل المحلل العسكري تقدم “قسد” برعاية أمريكية شرقًا، إضافة إلى توغل تركيا شمال سوريا، ولفت إلى أن “تدخل أنقرة رغم ارتياحنا كثورة لذلك، لا يلغي قضية أنها قوات أحنبية تسرح وتمرح شمال البلاد”.
سيادة سوريا ومستقبلها في عيون معارضين
تحدثت عنب بلدي مع معارضين سياسيين وعسكريين، عرضوا رؤيتهم بخصوص “السيادة”، وقال محمد صبرا، كبير مفاوضي المعارضة في جنيف، إن النظام فقد شرعيته كنظام حكم معبّر عن سيادة سوريا، منذ أول رصاصة أطلقها على “الشهيد” محمود الجوابرة في 18 آذار 2011.
واعتبر صبرا أن “إطلاق الرصاص على المتظاهرين، يمثّل نقيض دور السلطة، التي يفترض أن تدير البلد، لتحقيق الأهداف الثلاثة العامة للدولة متمثلة بالأمن والسكينة والصحة العامة”، مشيرًا إلى أن “بشار الأسد اعتدى على أمن المواطنين بدلًا من حمايتهم، كما أنهى مفهوم السلطة بمعنييه القانوني والواقعي، عندما استجلب الميليشيات الطائفية وزودها بالسلاح”.
تتعامل المعارضة مع الأسد كزعيم ميليشيا، اقتطعت جزءًا من الأراضي السورية، على حد وصف المعارض السياسي، وهذا ما أفقده أي صفة تمثيلية للدولة السورية، “بعد أن حطّمها وحوّلها لدولة فاشلة، فاقدة لمقومات السيادة”، معتبرًا أن نضال السوريين “هو من أجل الحرية والاستقلال معًا، ولإعادة بناء الدولة الوطنية، دولة كل مواطنيها”.
جميع الدول التي تتدخل في سوريا، لها مصلحة في إطالة أمد الصراع، وجعل سوريا “لقمة سائغة ومفتتة”، تمكنهم من تحصيل مكاسب وتوسيع نفوذها، وفق رؤية النقيب سعيد نقرش، مدير المكتب السياسي والعلاقات الخارجية في لواء “شهداء الإسلام”.
وقال نقرش إن التدخلات، يُمكن أن تتيح للقوى البقاء في سوريا، “فالنظام السوري مقابل بقائه واستمرار دعمه من إيران وروسيا، وقع اتفاقات تضمن استمرار بقاء القواعد والنفوذ لهذه الدول”، مشيرًا إلى أن طهران وموسكو “تعملان على إنشاء ميليشيات لتكون داخل ما تبقى من الجيش السوري، مع الحفاظ بولائها للبلدين”.
ورأى مدير المكتب السياسي أن هناك حالة تنافس كبيرة بين الروس والإيرانيين، لافتًا “في ظل التضارب الكبير في مصالح البلدين، مازلنا مغيّبين عن الكثير من الاتفاقات السرية، التي باع بموجبها بشار الأسد سوريا وسيادتها واستقلالها”.
استقرأ العقيد الراوي مستقبل سوريا، على أساس أن “الفيدرالية أفضل من التقسيم”، معتبرًا أن “الدول صاحبة القرار في سوريا، ليس لها مصلحة في الاستمرار، فهي تثبت قواعد وتحقق مصالح وتدير ظهرها وتسير، وما يجري في العراق أفضل نموذج كمثال”.
تتباحث الحكومة العراقية مع أمريكا، لإنشاء خمس قواعد بإدارة عراقية ومستشارين وخبراء أمريكيين، ووفق الراوي فإن “الأقوياء في سوريا سيرعون المصالح بنفس الطريقة، أما الصغار (داعش وجبهة النصرة والمقاتلون الأجانب والميليشيات)، لن يستطيعوا الاستمرار لأن الشعب لا يمكن أن يقبل بهذه الأجسام الغربية، التي ستخرج كما في تجارب سابقة كثيرة”.
وأكد العقيد الطيّار أن روسيا “لن تخرج دون حصة، ولكن ليس بوجود قوات دائمة في سوريا”، لافتًا إلى أن “أمريكا وعدت روسيا أن تحافظ لها، على كامل العقود التي وقّعتها مع النظام، فبوتين يعمل في سوريا ويُطالب أمريكا بأجوره”.
تختلط أوراق ومصالح القوى الدولية والإقليمية في سوريا، التي غدت منذ سنوات مسرحًا للجميع، ووفق الراوي فإن البلاد “قد تضم ما يشبه الفيدراليات الاسمية، إلا أنها ليست مستقلة كما هو طرح الكرد بخصوص الإدارة الذاتية”، خاتمًا حديثه “ستعود سوريا إلى حدود سايكس بيكو في يومٍ ما”.
قواعد عسكرية أجنبية تدحض مصطلح “السيادة”
قاعدتان أمريكيتان في الرميلان وعين العرب
أٌنشأت أمريكا جنوب شرق مدينة الرميلان في الحسكة، أول قاعدة جوية لها في سوريا، تشرين الثاني 2015، بعد أن حوّلت مطار “أبو حجر” الزراعي إلى مطار عسكري، مستقدمةً مروحيات كخطوة أولى لتنسيق عملياتها ضد تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق.
وجهّزت الولايات المتحدة المطار بفنّيين، ووسعت مدرجاته ليصل طولها إلى 2500 متر، وفق مراقبين.
المطار الثاني يقع قرب عين العرب (كوباني)، على مسافة 90 كيلومترًا شمال الرقة الخاضعة لسيطرة التنظيم، ويبعد قرابة 35 كيلومترًا عن الحدود التركية.
ويضم طائرات حربية ومركز عسكري للدعم اللوجستي، وقال الفريق أول في القوات الأمريكية، كارلتون إفيرهارت، نيسان الماضي، إن “المطار سيلعب دورًا مهمًا في نقل المستلزمات والمعدات والأفراد”، وفق وسائل إعلام تركية.
قاعدة التنف بإشراف بريطاني- أردني
أنشئت القاعدة في أيار 2016، قرب معبر التنف على الحدود الأردنية- العراقية، بإشراف بريطاني وأردني وأمريكي في الفترة الأخيرة، إذ ذكرت تقارير غربية أن هناك نية لتوسعة القاعدة لتكون منطلقًا للعمليات العسكرية ضد التنظيم جنوب وشرق سوريا، وتستهدف طرده من البادية السورية، حتى مدينة البوكمال ودير الزور.
ودُرّبت فصائل عسكرية في “الجيش الحر”، داخل القاعدة التي تعتبر كغرفة عمليات مشتركة، وأبرز تلك الفصائل: “جيش مغاوير الثورة”، “أسود الشرقية”، “جيش سوريا الجديد”.
“حميميم” الروسية في اللاذقية
أبرز القواعد الروسية في سوريا، وتقع على بعد 23 كيلومترًا جنوب مدينة اللاذقية، وتبعد عن مدينة جبلة نحو خمسة كيلومترات، وعن القرداحة قرابة 14 كيلومترًا، بينما غدت مكانًا للجنود الروس، منذ أيلول 2015، مع بداية التدخل الروسي.
وتضم القاعدة منظومات دفاع جوي ومروحيات وطائرات حربية روسية، استخدمتها روسيا بشكل أساسي في العمليات العسكرية الأخيرة المساندة لنظام الأسد في حلب، وريفي إدلب وحمص وحماة وريف دمشق، وتتولى مهمة التنسيق العسكري ورصد العمليات بين كافة الأطراف في سوريا.
قواعد تركية غير معلنة شمال وشرق حلب
أنشأت تركيا بعد دخولها سوريا عسكريًا، من خلال عملية “درع الفرات”، آب 2016، قواعد عسكرية في الريفين الشمالي والشرقي لحلب، إلا أنها لم تعلن عنها بشكل رسمي.
ووفق ما نقلت مصادر متطابقة في “الجيش الحر”، في حديثٍ إلى عنب بلدي، فإن القاعدة الأولى أنشئت في بلدة دابق شمالًا، وقد خُصصت للأفراد فقط، دون وجود أي عتاد عسكري ثقيل.
القاعدة الثانية تقع في بلدة اخترين، وتضم مدافع وعتادًا عسكريًا ثقيلًا، وتستهدف منها أنقرة مواقع “قسد” في تل رفعت ومنغ، والقرى المحيطة بها.
كما أنشأت القوات التركية قاعدة في جبل الشيخ عقيل، المطل على مدينة الباب بعد سيطرة فصائل المعارضة عليها، مطلع العام الحالي، وتحوي مدفعية ثقيلة وعتادًا عسكريًا، وفق المصادر.
قاعدة للسفن الحربية في طرطوس
أنشأتها روسيا عام 1971، كقاعدة بحرية اقتصرت على الدعم اللوجستي وتموين السفن، وعقب عام 2011 شهدت القاعدة البحرية نشاطًا ملحوظًا، ازداد لاحقًا تزامنًا مع إعلان موسكو تدخلها العسكري لصالح النظام.
ووقّع النظام السوري في كانون الثاني من العام الجاري، اتفاقية مع موسكو تضمن توسيع القاعدة، بعد إعطائها صلاحيات لاستخدامها لمدة 49 عامًا، إضافةً إلى توسيع مركز الإمداد المادي والتقني لأسطول روسيا الحربي، إذ سمح النظام بوجود نحو 11 سفينة حربية داخل الميناء في وقت واحد.
الاقتصاد السياسي للأزمة السورية
سقراط العلو
عادةً ما تُمثل أزمات بعض الدول، فرصًا استثمارية لدول أخرى، فمقولة “الدول ليست جمعيات خيرية”، قاعدة ذهبية في العلاقات الدولية، والتي يجب أن يبنى عليها أي تحليل واقعي، للأسباب الكامنة خلف انخراط دولة ما في أزمة دولة أخرى، أما السرديات التي تُقدم لشرعنة التدخل، فهي لا تعدو كونها غطاءً ثقافيًا أو إنسانيًا أو إيديولوجيًا لشرعنة القتل والحرب.
في الحالة السورية، لا بد من توسيع المنظور السياسي، ليشمل البعد الجغرافي والاقتصادي، لإنتاج مدخلٍ جيوسياسي، يُشكل مرتكزًا لتحليل المصالح المتشابكة والمتضاربة، للأطراف المنخرطة في الصراع بشكل مباشر.
وعليه يمكن القول بأن سوريا هي “ضحية الجغرافيا”، التي وضعتها موضع القلب في ثلاثة مشروعات إقليمية، تتنازع دور “الدولة المركز” في الشرق الأوسط، في محاولة لملء الفراغ الأمريكي في المنطقة، من خلال المشروع الإيراني والتركي والإسرائيلي.
يُمثل المشروع الإيراني، الذي اختار بشار الأسد التماهي معه، مشروعًا قوميًا بغطاء طائفي، يُحاول فرض الهيمنة الفارسية على الشرق الأوسط، مستغلًا المذهب الشيعي للتمدد في المنطقة العربية.
لذا فإن أهمية سوريا لهذا المشروع، لا تنحصر في الحدود السياسية فقط، بل تتجاوزها إلى البعدين الجغرافي والاقتصادي، أما الأول فيتمثل بأهمية الجغرافيا السورية، باعتبارها منفذًا لإيران إلى البحر المتوسط من جهة، وإحدى حلقات الاتصال البري لمحور إيران في المنطقة (إيران، العراق، سوريا، لبنان).
أما الثاني فيتمحور حول طرق تصدير الطاقة، فإيران ثاني أكبر منتج للغاز في العالم، ولكن موقعها الجغرافي يجبرها على التصدير عبر ممرين إجباريين، بحرًا عبر المضائق العربية في الخليج، وهي غير آمنة نظرًا لعلاقاتها المتوترة مع هذه الدول، ناهيك عن التكلفة المرتفعة والحاجة إلى تقنية معقدة لتصدير الغاز المسال، والذي تسيطر قطر على ثلث تجارته في العالم، وتمتلك أكبر أسطول بحري في العالم من ناقلات التصدير.
أما الممر الثاني فهو البري، عبر عُمان إلى باكستان، وهو ما يمثل سوقًا محدودًا نظرًا لحجم إنتاجها، أو عبر مد أنابيب تعبر تركيا إلى أوروبا، وهو الخيار الذي لا تحبذه إيران، كون تركيا دولة منافسة سياسيًا لها، لذا كان الخيار الأنسب هو التصدير عبر أنابيب تمر بالعراق فسوريا، لتصدّر منتجاتها من النفط والغاز إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وهو ما سمي بمشروع “الخط الإسلامي”، الذي وُقّعت عقود إنشائه عام 2011.
يقوم الشق السياسي من المشروع التركي، على قيادة تركيا للعالم السُني، كما كان الحال في العهد العثماني، أما اقتصاديًا فيرتكز على استغلال موقعها الجغرافي وتحويلها إلى ممر عبور للطاقة والبضائع من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
لذا فإن سوريا تُعد منافسًا جغرافيًا لذلك المشروع من حيث الموقع، وممرًا أفضل من تركيا بالنسبة للدول التي لديها حساسيات سياسية مع أنقرة، وهو ما يدركه نظام الأسد جيدًا، فقد طرح عام 2002، خطته التي سماها “ربط البحار الخمسة”، لتحويل سوريا إلى همزة وصل بين أوروبا والشرق الأوسط.
المشروع هو ذاته مشروع “العدالة والتنمية”، الذي حاول منذ وصوله إلى السلطة عام 2003، تكييف المشروع السوري مع التركي بشكل تكاملي، يقوم على تحويل سوريا إلى ممر للطاقة ينتهي في تركيا ومنها إلى أوروبا، بدل أن يكون التصدير عبر المتوسط في سوريا، وعلى هذا الأساس بُني التقارب مع نظام الأسد، ولكن الأخير لم يستجب وقرر الانخراط في المشروع السياسي والاقتصادي الإيراني، والذي يعني ضمنًا تهديد المشروع التركي سياسيًا واقتصاديًا، فقطع بذلك شعرة معاوية مع أنقرة، التي يئست من إمكانية التفاهم مع هذا النظام.
بالنسبة لإسرائيل، فالمشروعان يتلاءمان مع الطبيعة الدينية لها كدولة، كما أن حالة الضعف والفوضى التي خلفها الربيع العربي، في الدول التي مر بها، تخدم مشروعها السياسي كما تخدم المشروعين السابقين.
أما من الناحية الاقتصادية، فإسرائيل منذ العام 2010، انضمت إلى نادي الدول المنتجة للغاز من خلال أربعة حقول عملاقة، اكتشفت في البحر المتوسط قبالة سواحلها، وهي بذلك تحولت إلى مُصدّر بعد أن كانت مستوردًا، ولكن أكبر حقلين للغاز في إسرائيل يعانيان من إشكالات ترسيم الحدود البحرية مع لبنان ومصر، وهنا المشكلة الحدودية قد تعني حربًا، لأنها تدور حول مورد كبير لدول بلا موارد.
ولكن مع تدمير سوريا، وحالة الفوضى التي تعيشها مصر، فإن إسرائيل أبعدت شبح الحرب عنها لعشرات السنوات، ومن ناحية أخرى فإن إسرائيل تسعى لاستغلال حالة الفوضى وانعدام الأمن في الدول العربية، وخاصة مصر، للتحول إلى ممر لنقل الطاقة إلى أوروبا، عبر جملة من المشروعات الاستراتيجية، التي يجري تنفيذها لتشكل بدائل عن قناة السويس.
وبذلك فإن المشروعات الثلاثة تتنافس اليوم في سوريا، عبر حرب بالوكالة، وجميعها تسعى للوصول إلى أوروبا اقتصاديًا، وهنا تظهر أهمية سوريا بالنسبة لروسيا، فمن الناحية السياسية تشكل سوريا بوابة عودة روسيا كقطب إلى السياسة الدولية، أما من الناحية الاقتصادية فروسيا هي أكبر منتج للغاز في العالم، وتتربع على عرش تجارته، فأوروبا تُشكّل أكبر أسواقها، ومن غير الممكن السماح لأي منافس بالدخول إلى تلك السوق لأهميتها الاقتصادية والسياسية كورقة ضغط بيد روسيا على أوروبا.
وعليه فإن التدخل العسكري في سوريا، واحتلال ساحلها أتاح لموسكو الإمساك بخيوط المشاريع الثلاثة، السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، وبالتالي إعادة صياغة المعادلة الأمنية والاقتصادية في المنطقة، بشكل يتناسب مع مصالحها.
وعلى هذا الأساس قُسّم النفوذ في سوريا، بين روسيا التي استأثرت بالساحل السوري لقطع الطريق على أي مشروع للطاقة يمر عبره، ولحاجتها إلى واجهة متوسطية تعتبر نقطة عسكرية متقدمة في مجال نفوذ الناتو، وإيران التي لها الداخل السوري ومشروعاته، بما فيها الخطط المستقبلية لإعادة الإعمار، كونها رابع أكبر منتج للإسمنت في العالم وأكبر منتج للصلب في الشرق الأوسط.
وتعد عملية إعادة الإعمار جائزة كبرى للعديد من الدول الخليجية، إضافة لتركيا التي تحتل شركاتها المرتبة 33 في الترتيب العالمي لشركات الإنشاءات، فتكلفة إعادة الإعمار في سوريا، بحسب آخر التقديرات، بلغت 900 مليار دولار إلى الآن.
يُضاف إلى ذلك الفوائد الاقتصادية للأزمة السورية، فملف اللاجئين السوريين أصبح أكبر موارد لبنان والأردن، التي تعتاش على المساعدات الدولية الخاصة بالسوريين، ناهيك عن رؤوس الأموال السورية، التي انتقلت إلى تلك الدول، وساهمت في زيادة معدلات النمو الاقتصادي فيها، وامتصاص نسبة التضخم الناجم عن زيادة الاستهلاك.