حجاب أبيض وتنورة كحلية.. سبع سنوات بين القبيسيات

  • 2017/05/07
  • 12:08 ص

عنب بلدي – حنين النقري

بحزن وخيبة، تتصفح ندى صور صباها المبكّر، تتأمل الرابط المشترك بين كل هذه الصور على مر السنوات، الحجاب الأبيض “الربط” المحيط بوجهها الطفوليّ، التنورة “المكسرة” المميزة بلونها الكحليّ، وكأنه لباس إجباريّ، تقول “ما يزعجني في هذه الصور ليس اللباس الموحد الذي كان إجباريًا بالفعل، بل القالب الفكري الجامد خلف ذلك”.

 لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد المنتسبات لجماعة القبيسيات، ففي عام 2006 أشير إلى أن عددهن يزيد عن 75 ألف امرأة، في حين تؤكد مصادر أخرى أنهن ضعف هذا العدد على أقل تقدير، يتركز نشاطهن في سوريا بشكل أساسيّ، وفي لبنان، فلسطين، الأردن، دول الخليج، بل وفي أوروبا وأمريكا أيضًا.

“سبع سنوات عجاف” حسبما تصفها ندى، هي المدة التي أمضتها في حلقات الدروس الدينية مع جماعة القبيسيات، لكن هذه الرحلة الطويلة، التي بدأت في سن الثالثة عشرة كمجاراة من ندى لصديقتها المقرّبة، انتهت في لحظة واحدة في أحد مساجد الغوطة الشرقية، أثناء تفسير الآنسة لآية قرآنية.

والقبيسيات، جماعة دينية نسائية نشأت في دمشق، أسستها منيرة القبيسي (مواليد 1933)، ومن لقب مؤسستها اكتسبت الجماعة اسمها المتعارف عليه بين الناس.

بدأت دعوة منيرة بين طالباتها في مدارس دمشق، وبخاصة الفتيات المنحدرات من عائلات دمشقية كبيرة وثرية، وكان تركّز الدروس الدينية في المناطق الغنية من العاصمة، لتنتشر فيما بعد في كامل أنحاء دمشق، وريفها، وحلب، وحمص ومحافظات أخرى، وليمتد اسم الجماعة لاحقًا خارج سوريا.

 وتُعرف الجماعة في كل بلد باسم مختلف، فمثلًا في الأردن يعرفن باسم الطباعيات نسبة إلى الآنسة فادية طباع، وفي لبنان باسم السحريات نسبة إلى الآنسة سحر الحلبي، ويشار إلى أن استلامهنّ لما يزيد عن 40% من المدارس الخاصة في دمشق كان له الأثر الأكبر في انتشارهن.

البداية في حلقات لتحفيظ القرآن

بدأت قصة ندى مع القبيسيات بدعوة هامسة من صديقتها المقرّبة في الصف السابع، تقول “بجدية بالغة وصوت هامس سألتني هبة إن كنتُ أرغب بالذهاب معها إلى بيت خالها، حيث تجتمع فتيات في عمرنا مع آنسة تعلمهن القرآن، لم أعرف الجهة التي تتبع لها هذه الحلقة، لكن همسات صديقتي والإصرار على عدم إخبار أحد جعلني أشعر بأن الأمر خطير”.

بعد مفاوضات كثيرة مع عائلة ندى، سببها رفض والدها التام ترددها على أيّ نوع من التجمعات (الممنوعة في ذلك الحين)، ورغبة والدتها في تقوية الجانب الديني لدى ابنتها والتأكد من سيرها في طريق صحيح، وافقت العائلة في النهاية، وكان ذلك بداية مرحلة جديدة من حياة ندى “علمت فيما بعد من صديقتي أنها استشارت الآنسة قبل أن تدعوني لحلقة التحفيظ، وأعطتها معلومات كاملة عني وعن عائلتي ومكان إقامتي، كانت الآنسة في غاية اللطف، شابة في العشرينيات ترتدي حجابًا أبيض. بعد الدرس أخبرتني صديقتي أن ملابسي غير مناسبة للحلقة، وأن الحجاب الأبيض سيليق بي جدًا، كما أن التنورة الكحلية لا تلفت النظر ولا تبرز جسمي، رغم أننا كنا أطفالًا حينها، ورغبة مني في أن أصبح مثل الأخريات أصررتُ على والدتي لتشتري لي حجابًا أبيض وتنورة كحلية، لكنني لم أصبح مثل الأخريات يومًا”.

حجاب كحلي

بعد عدة أشهر من التزامها بحلقة تحفيظ القرآن، أصبحت ندى موضع ثقة أهّلتها لأن تُدعى للدروس الدينية ذات المرتبة الأعلى، تقول “كانت آنسة الدروس الدينية مختلفة عن آنسة التحفيظ، وترتدي (إيشارب) كحلي وهو أمر يدلّ على مكانة عالية حسبما علمتُ فيما بعد”.

الكل يعامل الآنسة سلمى باحترام رهيب، كانت تقطن في دمشق وتأتي بسيارتها الخاصة، تجلس على كنبة في حين تجلس الفتيات عند أقدامها على الأرض، تقول ندى وتزيد في الوصف “كان المنزل الذي يقام فيه الدرس فخمًا مقارنة بمنازل ريف دمشق ولم أرَ مثله في حياتي، وفي كل فترة كانت تأتينا تعليمات بالتوجه لمنزل جديد وكلها تنافس بعضها في الفخامة، في الدرس تفاجأت بوجود الكثير من زميلاتي في المدرسة، لكن أحدًا منا لم يكن يشير إلى لقاءاتنا هذه أمام صديقاتنا الأخريات، كما أننا كنا نخرج بعد الدرس بشكل متفرّق وبفواصل زمنية بين بعضنا البعض”.

ويشار إلى أن لون الحجاب لدى القبيسيات يحمل دلالة على درجة من ترتديه، فالأبيض للطالبات والمريدات، ليتدرج بعدها إلى الأزرق الفاتح، فالكحلي، والأسود لأعلاهنّ درجة، وهنّ من يُطلق عليهنّ اسم “الآنسة”.

كأس ماء!

رغم سنها الصغيرة، كانت ندى تلاحظ أثناء الدروس تصرفات تستهجنها، مثل الحب “المبالغ به”، حسبما تصفه، من المريدات للآنسة، تقول “كنتُ أحترمها كما أحترم معلماتي في المدرسة، لكن الفتيات كن متيمات بها، يتسابقن بعد الدرس ليستشرنها بأمور خاصة، كثيرًا ما كنتُ أسمع إحداهنّ تشكي للآنسة والدتها وبعدها عن الدين، لكن كل ذلك كان عاديًا، أمام تنافس المريدات على بقايا الماء في كأس الآنسة بعد انتهاء الدرس وخروجها من الغرفة، وهو أمر لم أفهمه يومًا لأني كنتُ أراه مقززًا”.

تشير ندى إلى أن أمثلة عديدة من هذه التصرفات كانت تجري أمامها لكنها كانت تتغاضى عنها رغم أنها تجاوزات في نظرها، وتشرح ذلك بأمثلة ” مثل (فتحات) الآنسة التي تفتحها في الكتب المدرسية وتدعي أن الأسئلة ستأتي منها، أو وجود أسرار لذكر ما يجب عدم ترديده إلا من قبل الآنسات، أو التشجيع على إخفاء الأمور عن الأهل والكذب عليهم في حال عدم الرضا عن الذهاب للدروس، كما أنني كنت على الدوام أتساءل عن مصدر المال الذي تشتري لنا به الآنسة الهدايا الثمينة لقاء حفظ القرآن”.

تعتمد القبيسيات في دروسهن على كتب معينة مثل “فقه العبادات” لدرية العيطة، “رجال حول الرسول” لخالد محمد خالد، “دلائل الخيرات”، “فقه السيرة” للبوطي، “نجوم في فلك النبوة”، وكتاب التوحيد لسعاد ميبر.

عائلات غنية

استمرّت ندى في ارتياد حلقات حفظ القرآن صيفًا، ومتابعة دروس الدين طيلة العام مع القبيسيات، لكن ذلك لم يجعلها أقرب منهنّ، ولم تتغلغل يومًا في جماعتهن.

وتوضح “لعلّ السبب يكمن في عدم تقديسي للآنسة وعدم إبدائي مظاهر التعلّق، أو في عدم وجود أحد من أهلي أو أقاربي في الجماعة، أو لعله كوني من عائلة غير مشهورة وغير ثرية في بلدي، كل تلك الأسباب محتملة جعلتني أفتقد زميلات كن معي في الدرس، وعلمتُ فيما بعد أنهن دُعين لدروس الدين في الشام، الأمر الذي يدلّ على ترقّي مكانتهنّ، الملحوظ أنهن جميعًا كنّ من أكبر وأغنى عائلات منطقتي في الغوطة الشرقية، كما أن بيوتهنّ كانت تستقبل دروسًا وحلقات تحفيظ”.

تحقير الجسد

لم تكن ندى تحسب نفسها كالأخريات تأثرًا بكلام الآنسة، لكنها اليوم تؤكد على حجم التغيير الذي خلفته فيها الدروس الأسبوعية، تشرح ذلك “القبيسيات يقتلن أنوثة الفتاة بإصرار، تحاول الآنسة بكل ما أوتيت من قدرة على الإقناع، وبتكرار أسبوعي، أن تنفر الفتاة من جسدها، ألا تجعلنا نشعر بجمالنا وألا نظهر هذا الجمال، بل أن نكره ذواتنا”.

لم يكن الأمر بالتلميح، بل كانت الدروس تتطرق إلى ذلك بالتصريح التام، مثل تحريم تنظيف الشعر الزائد من الوجه، تحريم لبس البنطال في المنزل، تحريم ارتداء ملابس بأكمام قصيرة في المنزل ولو للمتزوجات.

حتى الآن ماتزال تستعيد ندى الكلمة الدونية التي تحقّر بها أجزاء جسم الأنثى، الأمر الذي صار يُشعرها بالخجل من جسدها، وكراهية تحولاته الطبيعية، وهو أمر لم تتعافَ منه إلا بعد سنوات من تركها للجماعة، على ما تقوله.

ويشيع العزوف عن الزواج بشكل كبير بين القبيسيات، وهو أمر يعزوه مؤيدو الجماعة إلى الرغبة في تكريس الوقت كاملًا للدعوة والدروس، فيما يعزوه المنتقدون إلى الرغبة بالتحرر من سلطة الرجل وعدم الرغبة “بالانشغال بالزوج عن الآنسة”. كما يشير المنتقدون للجماعة إلى أن زواج من ترتدي حجابًا كحليًا لا يتم إلا بإذن ممن هنّ أعلى منها مرتبة في الجماعة، بعد التأكد من عدم تعارض زواجها مع نشاطها الدعويّ.

في المقابل، يُشار إلى انتشار حالات زواج القُبيسيات من رجال ذوي نفوذ ومال في سوريا، لدرجة جعلت مفكرين من أمثال محمد شحرور يصرح بأن القبيسيات تمثل “شبكة تخترق صانعي القرار في سوريا، وتسعى إلى إقامة دولة إسلامية على غرار (دولة طالبان)”.

عهد الله

تزامن انشقاق ندى عن القبيسيات مع إعطاء النظام لهنّ الإذن بإقامة الدروس في المساجد عام 2006، وتروي قصة ذلك “رغم كل ما كنتُ أتغاضى عنه، لكن ما دفعني لترك القبيسيات للأبد كان مختلفًا، جرت الحادثة في أحد مساجد ريف دمشق، كانت الآنسة سلمى تعطي درس تفسير لسورة البقرة، عندما وصلت لآية “الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ”.

وتتابع، بعد لحظات من الصمت والتأثر، “تخيلي أن الآنسة تجرأت على تفسير (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) بأنهنّ من يقطعن جماعتهنّ وينقطعن عن الدروس الدينية التي أمر الله بها، كما أنها فسرت من (ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) بأنهنّ من يتركن جماعتهن ويلتحقن بجماعة أخرى، لا أدري كيف تحول السياق من الدين إلى الجماعة، وأخذت الآنسة تدعو الله على من تأخذ ثمار جهد غيرها وتستميل مريداتها وطالباتها، شعرت بالقرف الشديد من مستوى الحديث وكان هذا آخر عهدي بالقبيسيات، رغم الدعوات الكثيرة التي أتتني من زميلاتي بعدها لاستعادتي”.

فضّلت جماعة القبيسيات عدم التصريح بموقف واضح من الثورة السورية، إلا أن لقاء ممثلات لها برأس النظام السوري بشار الأسد في كانون الأول 2012 كان بمثابة اعتراف بشرعيته، الأمر الذي أثار حركات انشقاق بين صفوفهنّ، ولعل صفحة حرائر الثورة المنشقات عن تنظيم القبيسيات مثال على ذلك.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع