باستثناء الإصرار على هزيمة «داعش» نهائياً، لا يبدو أن إدارة ترامب بلورت توجهاً جديداً تماماً إزاء القضية السورية. في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي إلى موسكو، كان واضحاً حول رفض مشاركة آل الأسد في مستقبل سورية، لكنه كان يطلب عون الروس وإشرافهم على عملية ترحيل بشار عن السلطة، وهذا ما دأبت عليها إدارة أوباما، قبل تراجعها عن مطلب إزاحة الأسد.
أهم ما حدث في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما تراجع وزير خارجيـــته جون كيري عن التلويح بالخطة «ب»، إذ أوضـــح قبل ذلك مراراً أن البديل عن تنحية بشار هو الخطة «ب» التي تعني عملياً التقسيم. الصمت الأميركي حينذاك عن سقوط حلب، تحت الهجوم الـــروسي – الإيراني بمساندة قوات النظام، كان يعني انتهاء زمن التلويح بالتقسيم على أسس قوية، فمـــدينة حلب بما لها من ثقل مادي ومعنوي كانت من أهم أوراق التهديد بالتقسيم. قد يفسر هذا استعجال التحالف المؤيد للنظام السيطرة على حلب قبل مجيء إدارة ترامب أو منافسته كلينتون، وقد يفسر الآن استعجال التحالف ذاته السيطرة على المزيد من الأراضي، بما فيها ما يمكن الحصول عليه من تركة «داعش»، قبل ارتسام خطوط تماس جديدة.
ربما لا يكفي اتهام إدارة أوباما بالسلبية عموماً لتبرير بطء عملياتها ضد تنظيم «داعش» في سورية، فهي كانت أيضاً أمام استحقاق السيطرة على المناطق التي سيُهزم فيها التنظيم، وثمة إحراج كبير في تسليمها إلى النظام، وثمة مخاطرة أخرى محلية وإقليمية في تسليمها إلى الميليشيات الكردية. الكلام عن الورطة الروسية في سورية يحجب تورطاً أميركياً يتخفى خلف تصريحات لمسؤولين أميركيين تعبر عن رغبة في عدم التورط، فالإدارة الأميركية محاصرة بحرب لا عودة عنها على «الإرهاب»، وبمتطلبات الحلفاء الإقليميين، وأخيراً بمتطلبات الساحة السورية ذاتها التي تبدو عصية على «التأقلم» مع الحذر الأميركي.
لم يكشف كيري الخطة «ب»، لكننا نستطيع استقراء بعض ما فيها مما تروجه الإدارة الحالية. هناك أولاً الحديث الأميركي عن مناطق آمنة، وهناك الاستعجال في تحقيق نصر نهائي على «داعش». فوق هذين الاعتبارين المحليين، شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من حكم ترامب تقارباً مع قوى إقليمية عربية تسعى إلى إسقاط بشار، أو على أرضية تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. التوفيق بين هذه المعطيات يؤدي إلى إقامة مناطق آمنة في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» الآن، وتلك الآمنة فعلياً التي تسيطر عليها قوات «درع الفرات» المدعومة تركياً، وربما تنضم إليها المناطق الكردية لتأمين نوع من التوازن في السياسة الأميركية، وأيضاً لرعاية مقايضة محتملة تتخلى فيها الميليشيات الكردية عن مناطق ذات غالبية عربية تسيطر عليها الآن أو في الحرب المستمرة على «داعش».
من دون الاصطدام المباشر بروسيا وإيران، تستطيع إدارة ترامب من خلال هذا السيناريو التوفيق بين الكثير من الأهداف. أولها تحجيم التمدد الروسي في المنطقة، مع تحجيم النفوذ الإيراني، وحتى إقامة حاجز جغرافي بين منطقتي النفوذ المباشر في العراق ولدى نظام بشار وميليشيات «حزب الله». أيضاً هذا السيناريو سيكون مُرضياً لتركيا القلقة من تمدد نفوذ الميليشيات الكردية، مثلما قد يرضي الأخيرة إذا ضمنت سيطرة في رعاية أميركية على مناطق الوجود الكردي، على أمل استمرار هذا الوضع وترسيخه. يشار هنا إلى طلبها إعلان مناطقها محمية جوية، إثر القصف التركي الأخير على بعض المواقع، وربما يكون هذا الطلب عطفاً على معلومات تسربت من إدارة ترامب حول فكرة المناطق الآمنة.
تستند تسريبات الخطة «ب» إلى فرضية رسم خطوط تماس مضبوطة إقليمياً ودولياً، بحيث تصبح قواعد الاشتباك على الأرض خاضعة لمتطلبات القوى الفاعلة. هذا يسهّل نظرياً على كل طرف القيام بواجباته الداخلية، فيُفترض بالروس إعادة تأهيل النظام وإراحته من عبء الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً، بعد انتهاء دورها ضمن الحدود الجديدة. أيضاً، يُفترض بما يُسمى الفصائل المعتدلة، وربما بالتعاون مع الميليشيات الكردية، التفرغ للقضاء على الفصائل المتطرفة، «النصرة» خصوصاً، أما قرار قتال النظام «الذي لا تملكه كاملاً في الأصل» فسيصبح قراراً مركزياً يخضع مباشرة للاستراتيجية الأميركية.
يلخص دنيس روس، وسيط عملية السلام في عهدي بوش الأب وكلينتون، في مقال له في عنوان «أميركا وإنهاء الصراع السوري الرهيب» («الشرق الأوسط» 26/4) محاسن هذه الخطة، مع القول أنها «تؤدي إلى تقسيم الدولة السورية بحكم الأمر الواقع». روس، المقرّب من مراكز الأبحاث والقرار في واشنطن، يبدو قريب الاطلاع على النوايا الأميركية، فإقامة المناطق الآمنة «بعد هزيمة داعش» ستتبعها إعادة إعمار وإقامة مؤسسات حكم، وكل ما من شأنه تعزيز استقلاليتها، حتى إذا لم يصل الأمر على المدى القصير إلى إعلانها مستقلة.
العملية السياسية اللاحقة، إذا بقيت هناك عملية سياسية، ستكون على مبدأ إعادة توحيد البلاد من دون عائلة الأسد. واقعياً، لا يوجد هناك ما يسند هذه الفرضية، فعائلة الأسد لن تكون معنية بالرحيل ولو بقيت سيطرتها على أمتار قليلة، والحليف الإيراني لن يوافق على تسوية ما دامت سورية الموحدة خارج نفوذه. ليس هناك أيضاً في سلوك الكرملين ما يشجع على توقع التضحية ببشار من أجل الوحدة، فسياسة بوتين عموماً تعتمد قضم جزء إذا تعذرت السيطرة على الكل، إلا إذا حصل على صفقة مجزية جداً تتجاوز المسألة السورية.
قد يُقال إن هذا السيناريو أرأف من الواقع الحالي الذي تستمر فيه المقتلة السورية بلا رادع، وهو كلام فيه وجاهة أكبر لو نفّذ مثل هذا السيناريو قبل ما يزيد عن نصف مليون قتيل. أما ضمن ما وصلت إليه الأمور فهذا سيعني لنسبة كبيرة من السوريين إفلات القتلة من العقاب، بل مكافأتهم بإقرار حدود التقسيم بعد التدخل الروسي الذي سمح باستعادة مساحات واسعة من المناطق التي كانت خارج سيطرتهم. فضلاً عن ذلك، لا تطابق حدود التقسيم المتوقعة واقع المناطق التي ثارت على النظام، ولا تطابق الانقسام المجتمعي السوري بين مؤيد ومعارض. ذلك يستدعي بقاء القوى العظمى ضامنة وحارسة حدود التقسيم، في انتظار حرب أخرى قد لا يطول انتظارها.