خلف الأبواب.. عائلات كثيرة في منازل صغيرة

  • 2017/04/30
  • 3:42 م
أقدام أطفال يلعبون سوية في بيتهم الذي تعيش فيه خمسة عوائل بإدلب - 15 نيسان 2017 (عنب بلدي)

أقدام أطفال يلعبون سوية في بيتهم الذي تعيش فيه خمسة عوائل بإدلب - 15 نيسان 2017 (عنب بلدي)

وضعت الحرب السوريين في ظروف لم يخبروها قبلًا، وجعلتهم أمام خيارات “صعبة”، اضطروا للتكيف معها وتقبلها، على حساب حاجاتهم الاجتماعية والنفسية.

ونتيجة القصف العنيف على الأراضي السورية الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السوريون، كان النزوح عنوانًا عريضًا لمأساة داخلية، مقابلة لأخرى خلف الحدود.

الكثير من السوريين الذين خسروا منازلهم أو نزحوا من مناطقهم، حلّوا ضيوفًا على أقرباء لهم في مناطق أخرى، أو تشاركوا مع إخوتهم وآبائهم منازل واحدة، فبات بعضها يجمع أكثر من عشرة أشخاص في غرفتين.

عنب بلدي دخلت إلى منازل بعض السوريين لتسليط الضوء على ظاهرة السكن المشترك لأكثر من عائلة في منزل واحد، والتعرف على أسبابها، وما تخلفه من آثار.

خلف الأبواب ..
منازل صغيرة تتشاركها عائلات عدّة 

على سبيل اللعب، تتزاحم أقدام أحفاد أم محمد الستة عشر على بساط الغرفة، وتمر يد أحدهم مع إيقاع الأغنية على أقدام إخوته وأولاد عمه، ليقع آخر في فخ الضربة مع نهاية الأغنية، ويقع الباقون في دوامة الضحك.

وبعيدًا عن اللعب، يأخذ ازدحامهم في انتظار فرصة مناسبة لاستخدام حمام المنزل الذي يقطنون فيه شكل الغضب، في كثير من الأحيان، والذي قد ينتهي بمشكلة تعكّر صفو العائلة بأكملها.

جدّة الأطفال، أم محمد، هي إحدى السيدات اللاتي انتقلن من حياة مريحة نسبيًا في مدينة حلب إلى حياة النزوح في مدينة إدلب، ومن منزلها المستقل إلى منزل تتقاسمه مع أولادها الخمسة وعائلاتهم، لتختبر أسلوبًا في العيش كان يبدو لها مستحيلًا قبل ذلك.

“منزلنا عبارة عن خمسة غرف، كل عائلة تقطن في غرفة واحدة” تقول أم محمد لعنب بلدي، أما الغرف التي تتحدّث عنها، فهي معزولة عن بعضها بستائر قماشية، لتجعل المنزل الواسع يبدو كأنه مجموعة من الخيام المتلاصقة، التي تجمع خليطًا من الأحداث المرتبطة بكل فرد وكل عائلة، وتجعلها شبكة متداخلة، معرّضة للمشاكل بشكل يومي.

حال عائلة أم محمد، تعود بالذهن إلى مسلسلات البيئة الشامية، حين كان الجميع يقطن في منزل واحد، هذه الظاهرة كانت قد بدأت تختفي من المجتمع السوري تدريجيًا مع نهاية القرن الماضي، إلّا أنها عادت إثر الحرب في سوريا إلى الظهور مجددًا، لأسباب متعلّقة بالظرف المادي والنزوح بين المدن، وجلبت معها مشكلات كان المجتمع في سوريا بدأ يتجاوزها.

ويبدو أن تراجع الوضع الاقتصادي لأغلب السوريين سبب مباشر في دفع أكثر من عائلة لتسكن في منزل واحد، إذ تشير دراسة نشرتها “الأمم المتحدة” عام 2016، إلى أنّ 83% من السوريين باتوا يعيشون تحت خطّ الفقر.

بينما ارتفعت أسعار الإيجارات في سوريا بنسبة 300%، ليبلغ متوسط إيجار المنزل في المناطق المحررة، مثل إدلب، بين 30 و50 ألف ليرة في الأحياء الأكثر أمانًا، في حين لم يصل إيجار المنزل من غرفتين وصالة في دمشق إلى أكثر من 100 ألف ليرة سورية.

وتشير أم محمد إلى أنّ عدم القدرة على دفع الإيجارات المرتفعة للمنازل هو ما دفع أولادها وبناتها للسكن في منزل واحد، على أن يتقاسموا المصاريف فيما بينهم، مضيفةً “لولا تعاون الجميع لما سكنا في منزل”.

تقاسم الأعباء المادّية، لا يعني بالضرورة تقاسمًا لجميع تفاصيل الحياة، إذ توضح أم محمد أنّ عائلات أولادها لا تجتمع للغداء على طاولة واحدة دائمًا، وغالبًا ما تحضّر كل عائلة وجباتها الخاصّة لتأكل طعامها في الغرفة المخصصة لها.

ومن وجهة نظر علم الاجتماع، فإنّ نمط الحياة هذا قد تترتب عليه أزمات ومشكلات عدّة، على المستويين القريب والبعيد، إذ يرى منسق الصحة النفسية والدعم النفسي في منظمة “مستقبل سوريا الزاهر”، الدكتور عمار بيطار، أنّ أهم مشكلة قد تتعرض لها العائلات في المنزل الواحد هي فقدان خصوصية الأفراد، نتيجة تشارك نفس المطبخ والحمام ومكان الجلوس، ما يفسح المجال أمام الانكشاف على الآخرين.

وضمن المجتمع السوري المحافظ، قد يشكل هذا “الانكشاف على الآخر” أزمة كبيرة، وبالتحديد بالنسبة للنساء المحجبات، اللاتي يضطررن للعيش مع ابن العم أو زوج الأخت أو أحد الأقرباء، الأمر الذي يقيّد من إمكانية تحرّكهن، كما هو الحال بالنسبة لأم عبد الله، السيدة الأربعينية، التي تحدّثت لعنب بلدي عن معاناتها في السكن المشترك، وما ترتب عليه من تقييد لها ولغيرها من النساء.

وتشير أم عبد الله، التي تقطن في مدينة إدلب، إلى أنها اضطرت وعائلتها للسكن مع ثلاث عائلات من أقربائها لمدة ثلاثة أشهر، بعد أن قدموا من مدينة حلب، ما اضطرها لوضع الحجاب حتى أثناء النوم.

إسراء مؤذّن، وهي شابة من مدينة حلب، عانت من الموضوع ذاته، إذ أًجبرت، كما أوضحت لعنب بلدي، أن تلبس حجابها لفترات طويلة أثناء وجودها مع عائلتها وأربع عائلات من أقربائها في منزل واحد، عقب خروجهم من حلب، فيما تحسّن الوضع اليوم، بعد أن انتقلت عائلتها مع عائلة أخيها إلى منزل آخر.

وبينما ترى إسراء في اشتراك عائلتين بالسكن فسحة بالغة الراحة مقابل اشتراك خمس عائلات بمنزل واحد، ترى والدتها، أم علي، أنّ وجود زوجة ابنها في ذات المنزل، أمر يستدعي تأقلمًا من نوع خاص، إذ تشير إلى أنها تتعامل مع كنتها بطريقة تبعد العائلة عن المشاكل، وتحاول أن تقيس تأثير الكلمة التي تقولها، وطريقة توجيه النصيحة.

عائلات أخرى كثيرة عانت من وجود “الحماية والكنة” في منزل واحد، الأمر الذي خلّف مشكلات ترجعها الدكتورة والباحثة في الإرشاد النفسي، ثناء فتال، إلى “تراكمات ثقافية متوارثة في مجتمعاتنا”.

ولا تتوقف المشاكل التي يفرزها سكن العائلات في منزل واحد عند تقييد الحريات وعودة مشاكل عائلية إلى الظهور، وإنما يتخوّف الاختصاصيون من آثار السكن المشترك على الأطفال.

أم محمد، التي ذكرت لعنب بلدي، أن أحفادها كثيرًا ما يتجادلون أو تنشب بينهم خلافات نتيجة اللعب والمزاح، قللت من خطورة الأمر، معتبرة إياه أمرًا طبيعيًا يحدث بين جميع الأطفال.

إلّا أنّ الدكتور عمار بيطار، يعتقد أنّ سكن أكثر من عائلة في منزل واحد، يدفع الأطفال إلى انتهاج سلوك “عدواني” و”غير لائق”، نتيجة “اختلاط المرجعيات على الأبناء”، إذ غالبًا لا يعرف الطفل من أين يأخذ التوجيهات والأوامر والنصائح، نتيجة انشغال الأهالي وخروج أطفالهم عن سيطرتهم.

وبينما تتناسب زيادة المشاكل في المنازل طردًا مع ارتفاع عدد الأشخاص القاطنين، تصرّ أم محمد على أنّ حالها تبدو جيدة بالمقارنة مع غيرها، وتحاول أن تقلل الخوف من المستقبل، على اعتبار أنّ “حياة النزوح صعبة على الجميع، ولا يفيد سوى التأقلم”.


النزوح والأسعار يعيدان زمن “باب الحارة” 

يطول الحديث عن المشكلات الاجتماعية التي خلفتها ظروف الحرب في سوريا، إلا أن حركة النزوح التي شهدتها المناطق السورية المختلفة كان لها وقعٌ كبيرٌ على تغييرات طالت المجتمع السوري، فزادت من شرخ بعض العلاقات الأسرية، وعمّقت أخرى.

ومع اشتداد حركة نزوح السوريين إلى مناطق أكثر أمنًا بالنسبة لهم، اضطرت عائلات عدة إلى السكن في بيت واحد، وتحمّل تبعات السكن الجماعي المشترك ومشكلاته.

إيجارات باهظةوالقانون غائب

على اعتبار أن قطاع العقارات يتأثر بشكل كبير بالحروب وما يليها من نزوح، شهد سوق العقارات في سوريا ارتفاعًا كبيرًا لأسعار البيوت وإيجاراتها، في المدن والأرياف على حد سواء.

وبالعودة إلى عام 2010، كانت إيجارات المنازل في مناطق ريف دمشق بين خمسة وعشرة آلاف ليرة (الدولار حينها يعادل 50 ليرة سورية) ، فيما كانت تتراوح الأسعار في دمشق بين 10 و40 ألف ليرة سورية.

وبحسب ما تشير إليه الأرقام، فإن إيجارات المنازل زادت بعد عام 2011 بنسبة فاقت 300%، ليبلغ متوسط إيجار منزل في دمشق 100 ألف ليرة سورية، فيما يتراوح بالمناطق المحررة مثل إدلب بين 30 و50 ألف ليرة، في الأحياء التي لا تتعرض لقصف، في حين لم تكن يتجاوز ثلاثة آلاف قبل عام 2011.

ومع هبوط الليرة السورية وتدني مستوى الأجور داخل سوريا، أصبح من الصعب على عائلة واحدة، لا يزيد متوسط دخل الفرد فيها عن 35 ألف ليرة، أن تتحمل أعباء المصروف وسط غلاء الأسعار، ما اضطر عائلات عدة إلى السكن في منزل واحد لتقاسم الإيجار والمصروف.

كما أن طلب المالك لدفعة مالية مسبقة عن ستة أشهر أو سنة من إيجار المنزل زاد من صعوبة الأمر، وسط غياب الدور الحكومي في العلاقة بين المؤجر والمستأجر بما يخص تحديد قيمة الإيجار أو مدته.

ولا يوجد نص قانوني يلزم صاحب المنزل بالتقيد بتسعيرة أو تعرفة محددة بضوابط، بل يخضع تأجير معظم العقارات في سوريا لإرادة المتعاقدين، تحت مقولة “العقد شريعة المتعاقدين”.

حركة نزوح شديدة.. والبيوت نادرة

ستة ملايين سوري نزحوا من محافظات مختلفة في سوريا بسبب النزاعات الدائرة في مناطقهم منذ عام 2011 وحتى نهاية 2015، بحسب إحصائيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

إلا أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان أشارت في تقرير تحت عنوان “لا خيار لهم” إلى أن عدد السوريين المهجرين قسرًا من أماكن إقامتهم الأصلية تجاوز الستة ملايين مواطن حتى بداية عام 2017، بسبب اتفاقيات إخلاء المدن التي تسيطر عليها المعارضة.

وتشير التقارير إلى أن معظم النازحين فروا من محافظة حلب وريف دمشق، واتجهوا إلى المدن الآمنة، ما شكل أزمة سكانية ارتفعت على إثرها الإيجارات وقل عرض البيوت بسبب ازدياد الطلب.

وحتى في حال كانت العائلة ميسورة ماديًا، إلا أنها تواجه في بعض الأحيان صعوبة بإيجاد بيت فارغ ومفروش، خاصة في العاصمة والمدن المركزية، ما يدفعها إلى السكن مع عائلة أخرى من أقاربها إلى حين إيجاد منزل.

أم حمصية وأطفالها عند وصولهم إلى إدلب من حي الوعر – 25 نيسان 2017 (عنب بلدي)

تعددت المشكلات والسكنُ واحد

ربما لم يتوقع السوريون أن يُضطروا للعيش في منزل واحد مع أشخاص كانوا يرونهم مرة واحدة في الأسبوع أو ربما في الشهر، ما جعلهم عرضة لمشاكل تحت ضغوط نفسية أنتجتها الحرب.

وبعد توجه الشباب، قبيل عام 2011، إلى الزواج في منزل منفصل عن الأهل تجنبًا للمشاكل التقليدية بين “الكنة والحماية”، وجدت زوجة الابن نفسها مضطرة للعيش مع أهل زوجها، واستعادت “الحماية” سلطتها التي فقدتها لفترة.

إذ اتجه الشباب منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي إلى الزواج في منزل منفصل، بسبب وفرة البيوت البعيدة عن مراكز المدن، وإمكانية التسجيل على بيوت تقدمها مؤسسة “الإسكان”، ضمن مشاريع سكنية في ضواحي المدن، بحيث يُدفع ثمنها على أقساط زهيدة شهريًا.

وعلى اعتبار أن الأرياف كانت المناطق الأكثر تضررًا من النزاعات، اضطر الأبناء للعودة إلى منزل الأهل مع زوجاتهم وأولادهم، لتطفو المشاكل العائلية من جديد على سطح المجتمع.

وكان للأولاد أثر كبير في إشعال فتيل المشكلات بين الإخوة وزوجات الأبناء، إذ غالبًا ما تتحول المشاكل بين أبناء الإخوة إلى مشاكل بين الإخوة أنفسهم وزوجاتهم لتتأجج النفوس وتحتد الخلافات.

مشاكل أخرى أخذت حيزًا في السكن العائلي المشترك، أهمها معاناة الزوجات المحجبات من التقيد داخل المنزل ووضع الحجاب لفترة طويلة، إذ تُضطر الزوجة إلى التحجب من إخوة زوجها، أو البقاء في غرفتها طيلة فترة وجودهم في المنزل.

مشكلات السكن العائلي المشترك

ماذا قال اختصاصيو علم النفس والاجتماع؟ 

يقول المثل الشعبي إن الخلافات هي “ملح الحياة”، وهي أمر طبيعي قد تتعرض له أي عائلة، وليس من الضروري أن تكون مؤشرًا خطرًا، إلا أنّ ارتباط هذه المشكلات بظروف شبه دائمة هو ما يمكن أن تنجم عنه مجموعة من الآثار السلبية، التي تنعكس بدورها على الأفراد.

وفي المنازل التي تقطنها أكثر من عائلة واحدة تتشارك بصلة قرابة، يكون مجال الخلاف أكبر، وتضيق فرص التعبير عنه أو مناقشته، ما يشكّل أزمات على المستوى الفردي للسكان، وعلى المستوى العائلي.

عنب بلدي تحدثت إلى منسق الصحة النفسية والدعم النفسي في منظمة “مستقبل سوريا الزاهر”، الدكتور عمار بيطار، والذي نوه إلى أهمية تسليط الضوء على مشكلات السكن المشترك وإيجاد حل لها.

فقدان الخصوصية في مجتمع “محافظ”

الدكتور بيطار أكد أن الضغط النفسي الذي يعاني منه الناس نتيجة ظروف الحرب والتهجير والنزوح يعتبر أساس تلك المشكلات، وأشار إلى أن مشاعر الغضب السائدة في المجتمع السوري يصبها الناس على بعضهم وعلى أطفالهم، لعجزهم عن تفريغها على المسبب الرئيسي لأوضاع الحرب.

وقال إن الاشخاص المشتركين في السكن يُسقطون مشاعرهم على بعضهم من خلال البحث عن أخطاء الآخرين وتوجيه اتهامات وأحكام مسبقة.

وتابع “مثلًا قد توبخ الأخت ابن أخيها وتتهمه بضرب ابنها، وتطلق أحكامًا على زوجة أخيها بأنها مستهترة وغير مبالية”، وكل هذا بسبب ما أسماه “عجزها عن تفريغ غضبها على من تسبب بتهجيرها من منزلها”.

بيطار قال إن أهم مشكلة قد تتعرض لها العائلات في المنزل الواحد هي فقدان خصوصية الأفراد، وأضاف “معظم العائلات في سوريا تنحدر من بيئة محافظة، ولها خصوصيتها التي لم تعد تسيطر عليها في ظل الاكتظاظ داخل المنزل الواحد”.

إذ غالبًا ما تتشارك العائلات نفس المطبخ والحمام ومكان الجلوس، ما يفسح المجال أمام الانكشاف على الآخرين وفقدان الخصوصية.

الأطفال الأكثر تضررًا

بحسب تقارير دولية، فإن الأطفال السوريين كانوا الأكثر تضررًا من النزاعات والحروب الدائرة في سوريا، من فقدان حقهم في التعليم واللعب وتعرضهم لظروف الحصار والقصف والفقدان.

وبتسليط تلك التقارير الضوء على الأطفال، الذين يعيشون مع أقاربهم في بيوت مكتظة، نجد أن ظروفهم داخل المنزل زادت من معاناتهم، ما يدفعهم إلى انتهاج سلوك “عدواني” و”غير لائق”.

وأشار الدكتور عمار بيطار إلى أن الأطفال الذين يحتكون بأقاربهم ويعايشوهم لفترات طويلة قد يتعلمون سلوكيات غير مناسبة لعمرهم، وسط انشغال الأهالي وخروج أطفالهم عن سيطرتهم.

“قد يتعلم الطفل كلامًا بذيئًا سمعه من مراهق أكبر منه داخل المنزل، وقد يتعلم المراهق التدخين من شخص بالغ يراه كل يوم”، ما يزيد المشاكل بين الأهالي متهمين بعضهم بعدم الاهتمام بتربية أبنائهم.

مشاكل أخرى تواجهها الأمهات والآباء في حال كان يعيش أطفالهم مع جدّيهم، إذ غالبًا ما تختلط الأمور على الأبناء ويتعرضون للضياع وسط زيادة المسيطرين عليهم والمتحكمين في سلوكهم.

وشرح الدكتور عمار هذه الحالة بعبارة “اختلاط المرجعيات على الأبناء”، إذ غالبًا لا يعرف الطفل من أين يأخذ التوجهيات والأوامر والنصائح، ويتشتت ذهنه طارحًا أسئلة “كلام من الأصح جدي أم والدي، جدتي أم أمي؟”.

أطفال يلعبون سوية في بيتهم الذي تعيش فيه خمسة عوائل بإدلب – 15 نيسان 2017 (عنب بلدي)

نشر الوعي بين الناس حول خطورة الوضع الراهن

شدد الدكتور عمار بيطار على أهمية نشر الوعي بين السوريين حول الوضع الراهن وتبعاته، وقال “علينا أن ننبه الناس إلى صعوبة الأزمة التي يعيشونها ونطلعهم على المشاكل التي يمكن أن تواجههم”.

وتابع “إن الأزمة الراهنة تسبب ضغطًا على الموارد الاقتصادية وعلى العلاقات الاجتماعية وتحد من الخصوصية، لذا يجب توعية الناس بكيفية التحكم بانفعالاتهم في ظل تلك الضغوطات”.

ونصح الدكتور عمار العائلات التي تسكن في منزل واحد بضرورة تنظيم أمورهم ومهامهم لتفادي المشكلات الصغيرة التي تشحن النفوس وتفتح المجال أمام مشكلات أكبر.

تراكمات ثقافية “تفجّرت” من جديد

الدكتورة والباحثة في الإرشاد النفسي، ثناء فتال، أرجعت مشكلات الأسر إلى الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها السوريون، بالدرجة الأولى، في البحث عن “لقمة العيش”.

وأضافت إلى قائمة المشاكل “فقدان الاستقلالية”، وقالت، في حديث مع عنب بلدي، “عندما كانت كل أسرة تعيش بمفردها كان لها استقلالية في الآراء واتخاذ القرارات وحتى في مشكلاتها الصغيرة، وهو ما فقدته بعد تشارك السكن وتفاصيل الحياة مع الآخرين”.

ونوهت الدكتورة ثناء إلى مشكلات قديمة تأزمت من جديد نتيجة تراكمات ثقافية متوارثة في مجتمعاتنا، كالمشاكل بين “الكنة والحماية” والتي طفت على سطح المجتمع مع تشاركهما السكن من جديد.

كما أن لتلك التراكمات أثرها في تقييد حرية النساء داخل المنزل في حال تشاركت السكن مع إخوة زوجها، وخاصة فيما يتعلق بالحجاب، وتابعت الدكتورة “إن المرأة المحجبة لا تمتلك حرية الحركة داخل منزل أهل زوجها، وهذا ما قد يزيد المشاكل بين الزوج وإخوته في حال رآها أحدهم بدون حجاب”.

“لا حل بدون حوارات فعالة”

الدكتورة ثناء فتال حذرت من غياب الحوارات “الصادقة والفعالة” بين الأسر المتشاركة في السكن، ودعت إلى البحث عن الأسباب المنطقية للخلاف بعيدًا عن الغضب الذي ينتج حلولًا “ارتجالية بعيدة عن المنطق”.

وحثت كل فرد بالعائلة على أن يشغل مكانه الصحيح دون “التطفل” على أحد، خاصة في موضوع العلاقة بين الزوجة وحماتها، بالإضافة إلى ضرورة احترام آراء الآخرين وعقلياتهم المختلفة.

وركزت الدكتورة في نهاية الحديث على فكرة الرجوع إلى الشخص الكبير “الحكيم” في العائلة والذي يلجأ إليه أفراد العائلة لحل مشاكلهم واستشارته في الحلول المناسبة، وهي عادة اجتماعية موروثة في المجتمع السوري.

 

السكن المشترك.. سلبيات وإيجابيات 

على ضوء الحاجة إلى فهم أسباب وتداعيات ظاهرة السكن العائلي المشترك وعقباته، أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي في محافظة إدلب، وطرحت مراسلتنا سؤالًا على الناس حول إيجابيات وسلبيات سكن أكثر من عائلة في بيت واحد.

اختلاف العقليات والأطباع

أم علي، سيدة من إدلب، قالت إن أهم العقبات التي تواجه الناس في السكن المشترك هي اختلاف الأطباع والعقليات والآراء، إذ غالبًا ما يجدون صعوبة في التفاهم حول “أبسط المواضيع”، على اعتبار أن كل عائلة كانت تسكن في منزل لوحدها ولها عادات تتعلق بالطعام والنوم والنظافة.

وأشارت أم علي إلى أن حركة النزوح من مناطق النزاعات، وارتفاع إيجارات المنازل، هو ما يجبر الناس على السكن في منزل واحد وتحمّل الاختلافات فيما بينهم.

من جهته، أكد يحيى أحمد مدلج، نازح من مدينة بابا عمرو في حمص، على أهمية السكن العائلي المشترك في الظروف الراهنة من غلاء وضعف الأحوال المادية، وقال عند سؤاله عن إيجابيات السكن المشترك إنه (السكن) “مهم بالنسبة للعائلات الفقيرة ويساعدهم على تخفيف أعباء المصروف وتقاسم الإيجارات”.

وعن السلبيات لم يختلف رأي يحيى عن رأي أم علي في أن “قلة تفاهم” الأقارب فيما بينهم هي من أهم المشكلات الاجتماعية التي تواجههم، وقال إن “الضغط النفسي نتيجة الحرب يجعل الناس تدقق على بعضها في أبسط الأمور، لذا عليهم أن يتفهموا بعضهم أكثر”.

“مشاكل الأطفال تزيد من حساسية الآباء والأمهات”

أبو حسن، نازح من محافظة حمص إلى إدلب، كان له رأي مختلف عن سابقيه، فمن وجهة نظره فالمشاكل بين الأطفال تنتقل إلى الكبار وتعيق التفاهم فيما بينهم.

“العم إذا صرخ على ابن أخيه ووبخه تنزعج الأم وتتشاجر مع (سلفتها)”، وتابع “إلا أنهم مضطرون لتحمّل بعضهم والسكن في منزل واحد”.

وعن إيجابيات السكن العائلي المشترك قال أبو حسن إن الناس في زمن الحرب يحتاجون إلى أشخاص يتحدثون معهم و”يروحون عن أنفسهم”، وكذلك الأطفال، بحاجة إلى اللعب مع أقرانهم كونهم غير قادرين على اللعب خارج المنزل والتنزه خارجًا.

نضال أحمد، نازح من حي الوعر في حمص إلى إدلب، قال إن أهم سلبيات السكن المشترك هي تقييد حرية النساء بالحركة داخل المنزل، وتابع “غالبًا ما تضطر المرأة إلى وضع الحجاب على رأسها طول الوقت”.

وتطرق نضال إلى مشكلة النظافة وترتيب أمور المنزل بين النساء، فلكل عائلة عادات معينة تتعلق بالتنظيف والطبخ، ويؤدي اختلافها إلى مشكلات صغيرة تمهد للخلافات الكبيرة.

“علينا تجاوز الضغوط النفسية وتحمّل ظروف الآخرين”

عند سؤال الناس في إدلب عن كيفية التغلب على مشكلات السكن العائلي المشترك، توحدت معظم الآراء حول فكرة ضرورة احترام رأي الآخرين وثقافاتهم واختلافاتهم.

وبرأي أم علي فإن أفضل حل للمشكلة هو “عدم التدقيق على تصرفات من نتشارك معهم السكن والتغاضي عن أخطائهم، وتحمّل الظروف التي يمرون بها”.

وأوصت بضرورة التفاهم فيما بينهم وتوزيع المهام المتعلقة بأعمال التنظيف والطبخ وتأمين احتياجات المنزل.

أما أبو حسن فدعا منظمات المجتمع المدني إلى ضرورة توعية الناس بهذه المشكلة الاجتماعية ودعمهم نفسيًا ليتغلبوا على “ضغوط الحرب” ويصبحوا أكثر قدرة على استيعاب الآخرين واختلافاتهم.

 

“برامج مجتمعية نسائية” لمعالجة آثار السكن العائلي المشترك

غالبًا ما تكون “الفئات الأضعف” (النساء والأطفال)، أكثر المتضررين من المشاكل الأمنية والحروب، وينعكس ذلك بشكل واضح على أساليب التعامل وردود الفعل، إذ تشكّل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالحرب عبئًا كبيرًا على النساء، وتدفعهن إلى سلوكيّات خاطئة فيما يخص التعامل مع الآخرين، أو تتسبب بمشاكل نفسية مختلفة.

ورغم أنّ المنظمات والجمعيات النسائية التي تنشط في الأراضي السورية تقدّم برامج دعم نفسي دورية للنساء، للإحاطة بالمشكلات التي قد يتعرضن لها، إلّا أنّ هذه البرامج لا يمكن أن تغطي جميع الحالات، ويمكن أن تفقد الجدوى والتأثير، كما يرى منسق الصحة النفسية والدعم النفسي في منظمة “مستقبل سوريا الزاهر” الدكتور عمار بيطار.

مديرة مكتب شؤون المرأة في منظمة “ركين” في مدينة إدلب، وسام معرّي، أشارت في حديث لعنب بلدي، أنّ الكثير من النساء اللواتي يترددن إلى مقر المنظمة عانين من ضغوط نفسية نتيجة وجودهن في منازل مشتركة مع أكثر من عائلة.

وأوضحت معرّي أنّ المنظمة، وعبر مكتب شؤون المرأة، تنظّم “جلسات توعية ودعم نفسي لفهم مشاكل النسوة ومساعدتهن على حلّها”.

وأضافت أنّ “ركين” تمكّنت، ضمن إمكانياتها، من توفير عدد من المنازل للعائلات التي لا تملك المال الكافي لاستئجار منزل خاص، ما خفف من الضغوط الناجمة عن السكن المشترك.

أما “الهيئة النسائية لدعم المرأة والطفل” في إدلب، فهي تتطرّق لمشاكل السكن المشترك، ضمن جلسات توعوية حول “العلاقة بين النازح والمقيم”، وبحسب مديرتها، رولا شحادة، فإنّ هذه الجلسات تهدف إلى إشغال النساء عن الضغوط النفسية، ومنحهن الفرصة للتحدث أكثر عنها.

وأشارت شحادة إلى أنّ الضغوط النفسية تنعكس في سلوك النساء وانفعالاتهن، وضربت مثالًا على ذلك، أنّ إحدى النساء اللاتي حضرن جلسة توعوية قالت إنها أصبحت تضرب ابنها بشكل متكرر دون أن تتمكن من السيطرة على نفسها، بينما كانت النصائح من الجمعية بضرورة تفريغ الشحنات السلبية بالرياضة أو الطبخ أو المهن اليدوية.

رغم إشادة الدكتور بيطار بالجهد الكبير الذي تبذله الجمعيات والمنظمات في الأراضي السورية، إلا أنه يعتبر أنّ مفهوم الدعم النفسي في الداخل السوري لا يُقدم بالصورة الصحيحة وضمن معايير الصحة النفسية، إذ إن نشاطات الدعم النفسي الاجتماعي يجب أن تخضع لمعايير هرمية وفق “هرم التداخلات في حالة الطوارئ”، والذي يركز بالدرجة الأولى على تقديم الخدمات الأساسية للناس من مسكن وملبس ومأكل ورعاية صحية وغيرها.

فيما يأتي بالدرجة الثانية تقديم الدعم للأسرة وأفراد المجتمع، من خلال تنظيم نشاطات ترفيهية ورياضية وتفعيل العلاقات الاجتماعية، وهو ما يفتقده السوريون في الداخل.

مقالات متعلقة

  1. "السكن الشبابي".. ملاذ للشباب في تركيا وسبب للقلق
  2. مشاريع لترميم منازل متضررة من القصف في ريف حلب الشمالي
  3. البحث عن منزل في السويداء.. أزمة لا تنتهي بين المستأجرين والمالكين
  4. "الأناضول" التركية تنشر صورًا جديدة لمنازل "الطوب" شمالي حلب

في العمق

المزيد من في العمق