بين الرقة وطرطوس
إبراهيم العلوش
قد يبدو العنوان غريبًا للكثير من القراء الأعزاء، ولكن ثمة مجالات للمقارنة بين المدينتين شبه الريفيتين، وقد انتهتا إلى مصير مأساوي متشابه، فالرقة اليوم عاصمة لتنظيم داعش، وطرطوس عاصمة للتشبيح ولعبادة عائلة الأسد.
تتسم الرقة وطرطوس بتبعيتهما لمدن سورية أخرى، فالرقة كانت تتنازعها مدينتا حلب ودير الزور، قبل أن تستقر مدينة مكتملة الملامح، أما طرطوس فكانت مدينتا اللاذقية وحمص تتنازعانها، وكانت تشاركهما دمشق بذلك، قبل أن تبرز على الساحة السورية كمدينة كاملة ومركز سياحي، يحمل السوريون الكثير من الذكريات الحلوة عنه وعن أهله الطيبين.
كانت الرقة وطرطوس محط تجارب مختلف دوائر النظام، فالقرارات والتجارب الإدارية يتم تطبيقهما في المدينتين المعتمدتين كحقل تجارب، مثل تجربة التعليم المختلط، وتجربة منع الحجاب في المدارس، واختبار البرامج الحكومية الجديدة.
وكانتا طوال سنوات تتبادلان تصليح أوراق الشهادتين الإعدادية والثانوية، وكان الكثير من الرقيين يصطافون في طرطوس، وتشكل جزيرة أرواد محط إعجاب ودهشة لأبناء الرقة، كما أن الكثير من سكان طرطوس يعملون كمعلمين في الرقة وريفها، فالتعليم في طرطوس منتشر بشكل واسع، وإن لم يكن تعليمًا نوعيًا يفرز تحولات ثقافية واجتماعية وتقنية، فقد ظلت البطالة منتشرة، والقيم القروية، والفئوية، هي السائدة في عقول متعلميها، وكان هدف معظم الخريجين هو الحصول على وظيفة بيروقراطية، أو الالتحاق بأحد الأجهزة الأمنية أو العسكرية.
ورغم كثرة التغني بالحداثة والتقدم والاشتراكية التي يدعيها النظام وأنصاره، فقد ظل المهندس الزراعي الطرطوسي، مثلًا، يربي الأبقار بنفس طريقة أجداده البدائية، ويعتنق نفس قيم الانغلاق الطائفية، وخريجو الدراسات العليا الكثيرون، والمتخرجون على الأغلب من أوربا الشرقية وروسيا، فشلوا في وضع بصمة اجتماعية نوعية، مهما كانت صغيرة، بل ساهم الكثير منهم في التجييش الطائفي، حفاظًا على المناصب الجامعية والعامة، التي استولوا عليها بغير جدارة علمية أو عملية.
بعد اندلاع الثورة السورية، تباعدت المدينتان، وإن ظلتا ميدان تجارب لمختلف الأطراف القوية على الساحة السورية، فالرقة اندفع إليها التيار السلفي الجهادي عام 2014، واستولى عليها بعد تحريرها من قوات النظام على أيدي الجيش الحر عام 2013، وقد عاشت عدة أشهر من الحياة المدنية وانتشار التنظيمات الأهلية التي أغنت المدينة وأعادت إليها شخصيتها رغم القصف شبه اليومي ببراميل النظام، وبصواريخ السكود التي استهدفت الأفران والأسواق، ودمرت الكثير من معالمها ومنها المركز الثقافي بالرقة، وهو أحد أكبر المراكز الثقافية في سوريا.
وقد تشتت أهل الرقة وهُجّروا إلى المدن والبلدان المتفرقة بعيدًا عن بيوتهم، وعمن تبقّى من أهلهم، وانضم بعض مثقفي الرقة إلى طابور النظام، ولكن الكثير من كتاب ومثقفي الرقة رفضوا الظلم ورفضوا التعامل مع داعش ومشتقاتها، ويحاولون أن يفعلوا شيئًا، من أجل إعادة تحرير الرقة وعودتها إلى أهلها.
أما طرطوس فقد تحولت إلى خزان لشبيحة الأسد الذين رفعوا شعارهم “الأسد أو نحرق البلد”، والذين وصلوا حتى اليوم إلى الهدفين معًا فقد فازوا بالأسد وأحرقوا البلد، وكانت اندفاعة شباب طرطوس في الدفاع عن عائلة الأسد ملفتة وتستحق الدراسة من قبل المختصين.
فهل البطالة الشديدة والحاجة هي التي دفعت الكثير من شباب طرطوس إلى التورط في هذه المحرقة، أم أن أجهزة النظام كانت بارعة التخطيط واستفادت من الحماس الريفي الساذج، واستولت على طرطوس كخزان بشري مندفع، لا يسأل، ولا يأبه بالسوريين، ولا يبحث عن مستقبل إلا في ظل عائلة الأسد، فالتشبيح يعتمد على البندقية أو عصا التعذيب، والصوت العالي الذي يخيف المواجهين ويدفعهم للاستسلام، ولا يجيز استعمال العقل، فالشبيح رغم أنه قد يكون خريجًا جامعيًا، فإن أمراء الحرب انتزعوه من بيع البسطات في الكراجات، أو في الشوارع العامة، وخلّصوه من البطالة والحرمان، بشرط واحد هو عدم استعمال العقل أو الاستسلام للمشاعر الإنسانية.
وساق الكثير من المثقفين والكتاب الطرطوسيين أتباعهم الى تأييد حالة التشبيح هذه، أو السكوت عنها، ولو استطاع بعض كتابها أن يسوقوا أبطال قصصهم، ورواياتهم، باتجاه التشبيح لما توانوا عن ذلك، معلنين تأجيل الحب، والعمل، والصداقة، لتدعيم الحواجز وغرف التحقيق.
وقد تمرد البعض منهم وكان مخلصًا لمبادئه، رافضًا للظلم والاستبداد، مضحيًا بالكثير من الفوائد والأعطيات التي يبرع النظام بتوزيعها، ومنهم حبيب صالح، ورشا عمران، والكثير من مناهضي التشبيح الذين يشعرون بمرارة القهر من استغلال النظام لأهلهم ولأبناء مدينتهم البسطاء.
وتحولت القاعدة العسكرية الروسية في ميناء طرطوس إلى مرتكز صلب للاحتلال الأجنبي لسوريا، وصارت إيران تصول وتجول في طرطوس، وهي تشحن الناس بالحس الطائفي، وترتفع به فوق المستويات المدروسة التي كان النظام يستخدمها، بأساليب مخابراتية متخفية ولكنها بالغة التأثير.
الرقة اليوم عاصمة داعش والإرهاب المحتكر للدين، وطرطوس عاصمة التشبيح التي ينفخ التأليب الطائفي فيها حس العداء والكراهية، ويسقط أبناؤها ضحايا لهذا التأليب، الذي تعمل عليه أجهزة النظام وميليشيات إيران، والإعلام الروسي!
تم تهجير أكثر من نصف سكان الرقة من قبل داعش، وتورط الكثير من أبنائها بالانضمام إلى صفوفها تحت تأثير الحاجة، أو بحثًا عن الانتقام لقتلاهم، أو بحثًا عن القوة والمال، في ظل التنظيم الذي نال الكثير من غض النظر والأعطيات البترولية، وتم تسهيل حصوله على الأسلحة من قبل الجيش العراقي، ومن قبل جيش النظام السوري.
الألوف من أبناء طرطوس، ومن ضباطها، ومن شبابها تم قتلهم في معارك الدفاع عن النظام والإيرانيين والروس، وعشرات الألوف من سكان طرطوس اليوم يعانون من الإعاقة، أو من اليتم، أو من الترمل، وقد تحولت حياة الألوف إلى جحيم في ظل انتظار مخطوفيهم على مختلف الجبهات التي تقاتل السوريين لتجبرهم على القبول بالأسد، في حين يقيم أمراء الحرب حفلات انتقاء ملكات الجمال وتحويلهن لاحقًا إلى الكباريهات والنوادي الليلية، التي تعج بأثرياء التعفيش والتشبيح، أو يزفونهن إلى الضباط الروس الذين تحولوا بنظر الشبيحة إلى آلهة.
الرقة اليوم يتم محاصرتها لطرد داعش منها، وإحلال قوات البي كي كي مكانها، في خطة دولية وأمريكية جديدة، لتفكيك البلاد السورية، وصارت أعلام غريبة ترفع في سمائها، مثل الرايات السوداء الداعشية، والرايات الصفراء القنديلية.
في طرطوس ترفع الرايات الإيرانية، ورايات ميليشياتها، وكذلك الرايات الروسية وتابعوها، بالإضافة الى صور بشار الأسد الذي تحول إلى شبح لا يستمر وجوده إلا على دماء السوريين وخراب بيوت السوريين.
الرقة وطرطوس تفترقان اليوم، الرقة يتم أسرها وربطها بحبل وجرّها باتجاه جبال قنديل، وطرطوس تبحر باتجاه الوصاية الروسية والإيرانية، وقد أحكم أمراء الحرب القبض عليها، للمتاجرة بها في سوق المحاصصات الدولية.
تتمزق روابط السوريين وتتباعد أراضيهم، ويبقى الأيتام، والأرامل، والمخطوفون، والمعاقون، والجرحى، والمُهجرون، والأمهات السوريات، والسوريون الأوفياء، يبقون وحدهم يدفعون الثمن!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :