السوريون والانتخابات الفرنسية
حذام زهور عدي
كان من الصعب ألا يلاحظ المتابع لأخبار الانتخابات الفرنسية حماس اللاجئين السوريين في فرنسا لانتخابات الدورة الرئاسية الأولى بالرغم من عدم حقهم بالانتخاب، ليس لأنها فقط التجربة التي حرموا منها طويلًا، ولا لأن المرشحين يطرحون برامج لها علاقة بأوضاعهم الحالية والمستقبلية على أهميتها، ولكن لأنهم يريدون أن يتعرفوا على كيفية الممارسة الديمقراطية بحد ذاتها وكيف يمكن للفرد المواطن أن يكون فاعلًا ومؤثرًا فيما يُخطط له سياسةً واقتصادًا بما يمس حياته ووطنه وأجياله المقبلة.
وأشد ما لفت نظرهم عندما انخرطوا مع تجمعات المواطنين الفرنسيين الذين يشاهدون ما تنقله الشاشات الضخمة في الساحات العامة من سير العملية الانتخابية وبعد انتهائها، وربما اعترتهم الدهشة من وجود لجان المناطق أو الأحياء كمراقبين لعملية الفرز، إذ كانت لجان العمل الانتخابي نفسها تعد كل مئة صوت وتسجل نتائجه، ثم تضعه بظرف مناسب وتسلمه للجان الحي(كممثلين للمجتمع المدني) ليعيدوا تدقيقه ولا تكتب عليه ما يوحي بإنهاء فرزه إلا بعد موافقتهم على تلك النتائج. كما رقصوا مع الراقصين فرحًا بفوز مرشحهم الذي اختاروه، وحزنوا مع من حزن لخسارة مرشحه الذي كان مقتنعًا بأن برنامجه الانتخابي هو الأكثر فائدة له ولوطنه.
وعند إعلان النتائج لاحظ السوريون بأن هناك حالة وحيدة قد تكون مشتركة بينهم وبين الحالة الفرنسية، فكلاهما يعاني من انهيار الأحزاب القديمة التقليدية وانقساماتها بحيث تعرقل إمكانية الاختيار المريح وفق قناعة المواطن، واضطراره لتفضيل الأقل سوءًا بالنسبة له، مع الفارق الكبير بالطبع بين السرعة التي قدم المرشحون فيها الحلول لتلك الظاهرة الطبيعية المتناسبة مع تطور العصر وتغير المعطيات الاقتصادية والعلمية ومفاهيم العدالة والمواطنة في ضوء برامج العولمة. بينما كانت إحدى المعضلات الكبرى في الثورة السورية هي غياب القيادة السياسية المعتمدة على حزب أو أحزاب مؤتلفة قادرة ليس فقط على قيادة المركب الثوري في أعقد وضع داخلي وخارجي، بل لو وُجدت لكان بالإمكان توفير كثيرٍ من الدماء السورية المهدورة مجانًا.
فالديمقراطية الفرنسية أوجدت بعام واحد البديل لأحزاب اليمين واليسار المنهارين، ودفعت حركة جديدة أطلقت عليها اسم “إلى الأمام” استطاعت أن توصل مرشحها (ماكرون) إلى الدورة الثانية كأول اثنين يختار الشعب الفرنسي أحدهما للرئاسة المقبلة، بينما لم يستطع الناشطون السياسيون السوريون ايجاد البديل للقيادات الشائخة التقليدية في أحلك ظروف الشعب السوري.
وهذا هو الفارق الأساس بين النظام الديكتاتوري الذي يحرم مجتمعه من إمكانية تجديد قياداته السياسية والمجتمعية، بعد أن قضى بأساليب القمع الوحشي على أي إمكانية لبروز قيادات وطنية ذات خبرة بالعمل السياسي الوطني الحقيقي تستطيع أن تقود مجتمعها في أوقات الشدة، وتراقب السلطة ومدى التزامها ببرنامجها الذي تسلمت سلطتها من خلاله.
لقد شاهد السوريون كيف تحل الديمقراطية مشاكلها بمزيد من الديمقراطية، ولمسوا لمس اليد أن النظام الديمقراطي الحق هو أفضل نظام أوجدته البشرية إلى اليوم لإدارة شؤون الوطن والمواطن بالرغم من نواقصه ومن الانتقادات التي توجه له.
جمعت حركة “إلى الأمام” الفرنسية الشباب الجديد الذي لم يعد اليمين أو اليسار التقليديان يمثلان تطلعاته، فخاطبته باللغة التي يُريد أن يسمعها، فقد جرّب اليسار في أكثر من رئيس وأكثر من دورة انتخابية وانتخب مرشح الحزب الاشتراكي، كما فعل الشيء نفسه مع اليمين وانتخب مرشح حزب الجمهورية اليميني، لكن النتائج كانت مخيبة لآماله مع الاثنين. التقط المرشح ماكرون ضيق الشباب ونفاد صبرهم فألف الحركة من شباب اليمين واليسار المحتج، وخاطبهم بشعارات: فرنسا القديمة وفرنسا الجديدة، وجعلهم يرقصون على موسيقى البوب الأمريكية، وقدم لهم صيغة الاعتدال والوسطية والانفتاح على العالم حتى لقبوه برجل العولمة والرأسمالية الجديدة، معارضًا السيدة لوبين التي، على يمينيتها المتطرفة وانغلاقها المضاد للعولمة وقبول الآخر المهاجر، استطاعت سحب البساط من تحت أقدام اليسار بتوجهها إلى الشرائح المهمشة من العاطلين عن العمل بسبب سياسة العولمة والمهددين بإغلاق معاملهم، وركزت على ظاهرة انكماش البورجوازية الصغيرة الحامل الاجتماعي التقليدي لأحزاب اليسار وللأفكار الاشتراكية وللعمل من أجل التغيير والتجديد.
حقًا إنها ظاهرة جديدة تستحق دراسة معمقة، اليمين المتطرف يكسب جزءًا غير قليل من الجمهور التقليدي لليسار، ويتبنى مشاكله وشعاراته، كل ذلك من نتائج العولمة، إنهما برنامجان متعارضان إلى حد واضح وللفرنسيين أن يختاروا بينهما.
وهكذا تستطيع الديمقراطية أن تجدد نفسها وأن تُقدم الحلول التي يرتئيها الطرفان مناسبة لحل مشاكل البلد في إطار المحافظة على الوطن وعلى نظامه الجمهوري، وعندما يفشل من اختاروه بالحل المناسب، يستبدلونه بما يعتقدون أنه أكثر أهلية لتلك المهمة، بل يحاسبون من فشل ولو وصل الأمر إلى القضاء، وليس غريبًا أن تُسمع اليوم أصوات تنادي بمحاسبة الرئيس هولاند لأنه لم يتقيد بالبرنامج الذي انتخبه الشعب الفرنسي بسببه كرئيس لجمهورية فرنسا. وقد يُبنى على تلك الحلول نظريات جديدة في الاقتصاد والسياسة والفلسفة أيضًا.
ذلك النظام هو الطريق الأمثل اليوم لحل المشكلات التي تواجه المعارضة السورية العسكرية والسياسية، أما بلغة النظام الحاكم يضيع الوطن والمواطن ويتغول النظام ويتوحش، كما يحدث في سوريا اليوم، فهل من سامعٍ أو راءٍ أو مستفيدٍ من تجارب العالم؟ والعاقل من اتعظ بغيره، أما الأحمق فحتى من نفسه لايتعظ!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :