طريف العتيق
تجذب النهايات عادةً تفكير المرء ليأخذ وقفةَ تأمّلٍ تجاه موضوع ما، لأن الوجود مبني على طريقة تجمع التناقضات، ففي كل نهاية بدايةٌ لشيءٍ ما، كما أن العكس صحيح، هذا التحوّل، من نهايةٍ لبدايةٍ، هو الذي يدعو الإنسان ليتأمّل فيه، ويحاول أن يقيّم ويراجع ما كان، وما يجب أن يكون.
لكن كثيرًا ما تتمكن الملهيات من صرفنا عن هذه اللحظات، وتحرمنا الاستفادة منها، لذا سنحاول في هذا المقال وربما في غيره، إثارة أسئلة تتعلق بالثورة، النشاط الثوري، والناشطين العاملين فيها.
واحدة من أكثر القواسم المشتركة التي يمكن ملاحظتها بسهولة بين معظم العاملين في الثورة، سواءً في العمل السلمي، الإغاثي، أو حتى المسلح، كم المشاغل الملقاة على عاتق كلّ واحد منهم، وهي من التعدد والتنوع، ما لا يمكن إحصاؤه.
فلا يكاد أحدهم ينهي اتصالًا حتى يأتيه الثاني، بل كثيرًا ما يقع في حيرة على أيٍ من أجهزته الثلاثة أو الأربعة يرد، إذا رنوا في أوقاتٍ متزامنة، الشبكة الأرضية، الخلوية، العنكبوتيّة، الفضائية، الفايبر، اللاين، سكايب، والتانغو، سيل من وسائل الاتصال والمكالمات لا ينتهي أبدًا.
ورغم اعتراف الجميع وضيقهم الحقيقيّ من ذلك، إلا أنهم يتفقون على أنّ جميع تلك الاتصالات أو أكثرها مهم، إنك ترى الناشط في مجال الإغاثة، وهو يتصل مع سائق الشاحنة ليرى أين وصل في طريقه، ويتصل مع مدير المنظمة الفلانية ليخبره بأن معونات هذا الشهر قد تتأخر بسبب بعض الحواجز، ثم يجري اتصالين أو ثلاثة مع بعض الضباط في محاولة تيسير الطريق، لتأتيه الاتصالات بعد ذلك من المسؤولين عن مراكز التوزيع، يستفسرون عن التأخير الحاصل في استلام المعونات، وبأن العائلات ضاقت ذرعًا.
وكذا الحال مع الناشط العسكريّ، الذي يمضي ساعاتٍ عدة على سكايب كل يوم، يتحدث مع القادة في الخارج، وفي الداخل، مشغولًا بالدفعة الجديدة من الذخيرة، والتي وعد بالحصول عليها منذ شهر، بينما لا يظهر في الأفق أملٌ في وصولها، رغم حاجة مقاتليه لها، ثم يجري بضعة اتصالات مع قادة مجموعات أخرى، في محاولةٍ لحل بعض المشاكل العالقة أو الوصول إلى إتفاق بشأن حدثٍ ما، سياسيّ أو غيره.
هذه أمثلة بسيطة جدًا، متواضعة للغاية، من حجم المشاغل التي يتصدى ناشطو الثورة لحملها، والعمل على إنجازها، وهم يشكون من قلّة العاملين، ممّا يحملهم كلّ هذه الضغوط.
وللأسف فإن عددًا لا بأس به من هؤلاء، يصلون إلى مرحلة الاستنزاف الكامل، وخسارة علاقاتهم الاجتماعية القريبة (الأهل، الزوجة، الأولاد..)، ويشعرون أنهم يعملون بضعف الطاقة التي يقدرون عليها، دون أن يشعروا بمردود حقيقيّ، فينسحب عددٌ منهم إلى خارج البلاد، أو إلى بعض المناطق الحدودية، في إجازة تبدأ صغيرة، لكن لا يبدو أنها ستنتهي.
فهل هذا الوضع صحيّ؟ والأهم من ذلك هل هو وضعٌ مجدي؟
أقصد أن هذا الانشغال الهائل هل يعود بالخير، التقدم، والإنجاز على الصعيد العام؟
أم أنّ شعورنا بفقدان الفاعليّة والتأثير هو الذي يدفعنا للغرق في المشاغل أكثر وأكثر كتعويض عما نشعر حقيقة بعجزنا عن تحقيقه؟
يذكرني هذا بحديث يرويه رواة السيرة النبويّة، عن أشخاصٍ أرادوا تحقيق فاعليّة أكبر، فلجأوا إلى الإنشغال.. تقول القصّة أن أحدهم نوى أن يقوم الليل كله ولا ينام، وثانيهم قرر أن يصوم الدهر كله فلا يفطر، وثالثهم أن يهجر نساءه فلا ينشغل بهنّ. فلما تناهى الخبر إلى رسول الله، جمع أصحابه، وبيّن لهم سنتّه (أي طريقته)، في أنه ينام ويقوم، يصوم ويفطر، ويضاجع نساءه ولا يرغب عن ذلك.
أخشى أن نكون أمام الحقيقة المرّة في أننا فقدنا فاعليّة أعمالنا، فاستعضنا عن ذلك بالكثرة والانشغال.