جودي سلام – عنب بلدي
مع استمرار الأزمة السورية لما يقارب ثلاثة أعوام تزداد أعداد المغيبين من الشبان والرجال بين مفقود ومعتقل وشهيد، تاركين -خصوصًا المتزوجين منهم- فراغًا عاطفيًا وماديًا في حياة أسرهم التي اعتادوا بحكم عادات المجتمع السوري إعالتها. وبذلك تتزايد الضغوط على زوجات المعتقلين والشهداء نتيجة ضغوط الحياة المادية وأعباء تربية الأطفال وثقل تدخل الأهل وأهل الزوج، إضافة لحاجات المرأة العاطفية والجنسية. وبين خيارات المرأة وقناعاتها وبين نظرة المجتمع وتقاليده تتباين القرارات التي تتخذها زوجة المعتقل أو الشهيد فيما يخص حياتها في غياب زوجها أو بعد رحيله.
هدى أم لأربعة أطفال أكبرهم في الـ 13 وأصغرهم عمره 5 سنوات، اعتقل زوجها ووصلهم نبأ استشهاده دون أن تُسلّم جثته أو هويته، صدّقت هدى النبأ، واعتدّت أربعة أشهر وعشرة أيام بعد وصول الخبر، وبعد 15 يومًا، وكان قد مضى ستة أشهر على اعتقال زوجها السابق، تزوجت شابًا يصغرها بـ 11 عامًا، متزوج منذ عام وزوجته حامل. الأمر الذي أثار غضب عائلة زوجها السابق وعائلة محمد، زوجها الثاني، إذ لم تتبين العائلة الأولى مصير ابنها بعد، وزواج هدى بشخص آخر أشعرهم بأن ابنهم لا قيمة له عند زوجته وأن تصرفها خيانة له، وكان عليها أن تتأكد من وفاته فعلًا، ومن ثم الانتظار «4-5 سنوات قبل أن تفكر بالزواج من جديد»؛ وترى العائلة أن عليها أن تتزوج من شخص «يناسبها ويكبرها» ويكون قادرًا على إعالتها وأولادها.
من جهتها عائلة محمد لم تتقبل هذا الزواج، إذ لم يمض عام على زواج ابنهم الأصغر من ابنة خالته بعد قصة حب. ترى العائلة تصرف محمد ذي الـ 21 ربيعًا «نزوة» و “طيش»، ما دفع والد محمد لطرده من المنزل مهددًا بعدم استقباله ما لم يطلّق هدى.
يدافع محمد عن ارتباطه بهدى، ويقول إنه تزوجها بدافع ديني ولشفقته عليها وعلى أبنائها، في حين تنفي زوجته الأولى ذلك «الأرامل منذ بداية الثورة بالمئات، وأهله يصرفون عليه إلى الآن… فلماذا الآن فقط فكر بالزواج؟» أما هدى فتدافع عن حقها في أن تتزوج، وتؤكد أن هذا لا يتنافى مع إخلاصها ووفائها لزوجها الأول، فهي وأبناؤها بحاجة لرجل يساندهم، خصوصًا وأنها في محافظة بعيدة عن أهلها ومعارفها بعد أن اضطرت للنزوح من داريا.
الزوجان، هدى ومحمد، اللذان ربطتهما معرفة أسريّة قديمة يعيشان حالة من القلق والحيرة. فهدى، التي تطالب المجتمع والثورة بإيجاد الحلول لزوجات الشهداء والمعتقلين بدل التضييق عليهن والوقوف ضدهن، تقول إنها لم تخالف الشرع وزواجها من محمد شرعي، وقد قام شيخ بتطليقها من زوجها السابق للضمان في حال لم يكن متوفىً مع أنها باتت على يقين تام بأنه استشهد في سجون النظام. وتضيف هدى بأن لها الحق أن تعيش حياتها، وفارق العمر ليس مهمًا وتستشهد على ذلك بأن الرسول الكريم كان يصغر السيدة خديجة. أما محمد فحائر بين أهله وزوجتيه، فهو يحب زوجته الأولى كما يحب هدى، حسب قوله، إلا أنه لا يحتمل ترك أهله، وأصبح محتملًا أن يتخلى عن هدى التي تخشى ذلك، فبعد أن طالها من المجتمع من الكلام المسيء ما نالها، وبعد أن خسرت أهل زوجها السابق، ستخسر بفقد محمد كل شيء.
ونقلت رنا وهي شابة تذهب كل أسبوع لزيارة خطيبها المعتقل في سجن عدرا أنها حملت رسائل من نساء إلى أزواجهن في المعتقل يطلبن الطلاق لأنهن لم يعدن قادرات على تحمل غيابهم، وتعددت إجاباتهن ودوافعهن حين سألتهن عن السبب. إحداهن ضاقت بتدخل أهل زوجها بها وبمضايقاتهم لها ولم تعد تحتمل ذلك لذا تريد الانفصال. سيدة أخرى أوضحت أنها تعرفت على شاب عبر الانترنت إثر الانفتاح الكبير في الآونة الأخيرة، وكان اعتقال زوجها فرصة لتتخلص من الحياة معه ولتتزوج وترى حياتها مع من تحب؛ في حين أوضحت سيدة أخرى بأنها كانت ضد مشاركة زوجها في الثورة، لكنه لم يسمع كلامها بأن يبقى بعيدًا عن النشاطات، وهي ليست مستعدة أن تضحي معه بعد اعتقاله.
ولا تقتصر هذه المعضلة على زوجات المعتقلين والشهداء، فكذلك الشبان في المناطق المحاصرة باتوا يفكرون بالزواج من النساء داخل المدينة تلبية لحاجتهم الجنسية، الأمر الذي أثار غضب زوجاتهم اللواتي يعانين التشرد والغربة والنزوح والفراق وكن قد ضحين حين وافقن على بقاء أزواجهم للجهاد لا ليتزوجوا عليهن.
وفي حديث إلى هادي، شاب من مدينة داريا ولا يزال متواجدًا فيها حتى الآن وينوي الزواج من إحدى المقيمات في المدينة. سألنا عن وضع زوجته خارج المدينة، وعما إذا خيرها بين انتظاره والطلاق لتتابع حياتها كما يريد هو متابعة حياته حين قرر البقاء في المدينة. في البداية انزعج هادي من السؤال، واعتبر أنه ما من داعٍ لذلك طالما أنه يؤمّن لها مصروفها؛ إلا أنه بعد تفكير لبرهة قال إن عليه أن يخيّرها، فإن أحبت انتظرته وإن أرادت فلها أن تنفصل عنه، فالحصار قد يطول سنوات.
انزعاج هذا الشاب من سؤال كهذا يعكس الفكر السائد في مجتمعنا والذي يجرد المرأة من حقوق أحلها لها الشرع ويتيحها لها القانون، ويجرم تصرفات تعتبر طبيعية للرجل، بل ومبررة أيضًا بشواهد دينية عدّة، في حين يعتم على دليل جوازها للمرأة.
وقد أفادنا الشيخ سارية الرفاعي (أحد فقهاء الشام) لدى عرض الحالة عليه، بأن تذهب المرأة إلى أي قاضٍ سواء في اللجنة الشرعية أو في الخارج السوري، وتشرح له وضعها فإن اقتنع القاضي بالمسألة فيمكن له أن يطلقها؛ وبعد طلاقها تستطيع -بعد أن تمسك عدّة المطلقة- أن تتزوج.
عنب بلدي سجلت عدة حالات تحدثت بها بعض الأرامل من زوجات الشهداء عن هذه النظرة من خلال زواجهن مرة أخرى بعد عام ونصف أو يزيد من وفاة أزواجهن، إلا أن أخريات كثر لم يجرؤن على ذلك، فريم أم لطفلين ترملت بعد استشهاد زوجها ولمّا تبلغ الثالثة والعشرين من العمر، تقدم عريس لخطبتها بعد عامين من استشهاد زوجها فرفضته بشدة خجلًا من كلام الناس ومكابرة لإرضاء المجتمع، فكبتت مشاعرها ورغبتها الدفينة بالزواج، وفضلت متابعة حياتها وحيدة على كسر القيد وتحدي نظرة المجتمع لارتباطها من جديد.