اللاجئ السوري وعلبة السردين الانتخابية
إبراهيم العلوش
ما إن تدخل انتخابات بلدان اللجوء في مرحلة الصمت الانتخابي، حتى تنتشر النصائح للاجئين السوريين بالامتناع عن الخروج من البيت حتى نهاية الانتخابات، وإذا كان لا بد من هذا الخروج، فعليه أن يسلك الشوارع والأزقة الجانبية، وأن يتجنب المرور في الساحات العامة، فمشاعر الناس هائجة والمتطرفون من كل الجوانب، سيجدون أن التهجم على اللاجئين هو أفضل تعبير عن غضبهم من الطرف الآخر في الانتخابات.
اللاجئ السوري عاش في دولة الديمقراطية المركزية، ولم يعرف معنى التنافس الانتخابي، فأجهزة المخابرات وأقنية الجبهة الوطنية التقدمية، هي من تتحمل العبء عن المواطن السوري في مشاكل الحرية والديمقراطية، وذلك ريثما يتم إنجاز الوحدة العربية، لتبدأ مرحلة الحرية كما تقول شعارات البعث المتمثلة، بالوحدة والحرية والاشتراكية.
في سجنه المنزلي على اللاجئ أن يتكيف مع الخيمة، أو مع القبو، أو البيت الصغير، وأن يبحث عن أقنية تلفزيونية بعيدة عن التنافسات الديمقراطية، ولعل الأقنية العربية هي أنظف أقنية من التناحرات الانتخابية، فالكلمة الأخيرة في بلدانها ليس لصندوق الانتخابات، بل للكائن الهلامي المتمتع بإمكانات خارقة، الذي يدعى رئيس الدولة حماه الله!
وقد يطل اللاجئ الحبيس في عزلته من النافذة ويشاهد الجموع، ومواكب المتنافسين الذين يرفعون أعلام بلادهم عاليًا وفوق كل الخلافات المتداولة بينهم.
قامت الثورة من أجل كسر حاجز التنافس المتمثل بأحزاب جبهة المخابرات التقدمية، وكان من الممكن أن يكون الصمت الانتخابي طقسًا سوريًا، يجعل الناس يفكرون بمن يختارونهم لهذا المنصب أو ذاك، أو يصوتون لهذا التعديل الدستوري أو ذاك، بشكل تنافسي سلمي بدلًا من القسر، والاغتصاب الذي يمارسه شبيحة الأسد أو نحرق البلد، أو شرعيو التطرف الإسلامي، الذين توصلوا الى تحفة الخلافة التي تحتكر اختيار ممثلي المجتمع بما يدعى “أهل الحل والعقد” الذين يختارهم شبح مختبئ في الصحراء، أو في قبو، ويلهب أتباعه بخطب حماسية، تحضهم على تكفير الناس، واغتصاب حياتهم، لأنهم ممثلون حصريون لإرادة الله دون بقية البشر!
وفي الشمال الشرقي من سوريا ينمو نوع جديد من القهر الانتخابي يسمى الإدارة الذاتية، وهو عبارة عن ديمقراطية شعبية تحت تهديد السلاح والعنصرية القومية، نسخة معدلة عن ديمقراطية البعث العربي الاشتراكي، فالإدارة الذاتية التي يبشر بها صالح مسلم، تمزج الماركسية، بالفوضوية، بتقاليد عصابات الجبال، وبدلًا من رفع صور حافظ الأسد أو ابنه فوق رؤوس جماهير الإدارة الذاتية، يتم رفع صور عبد الله أوجلان حليف حافظ الأسد القديم.
الكثير من مؤسسات الثورة اعتمدت الديمقراطية المركزية أيضًا في طريقة اختيارها لهياكلها، وبدلًا من أن تستولي عليها المخابرات السورية، اجتمعت عليها مخابرات عدة دول تختار من تشاء، في جو ديمقراطي، وبصمت انتخابي، يتم بعيدًا عن الأضواء في قاعات الفنادق الفخمة، التي تعج بزبائن النصب والاحتيال والصفقات المشبوهة.
تعيش الأمم والدول طقوس الاختيارات التشريعية، والرئاسية، والتغييرات الدستورية، بنقاشات وتبادل للآراء، وقد تتسم بالحدة ولكن باحترام بعضها البعض. بينما يعيش السوري سجينًا في خيمته، أو في غرفته، ريثما ينتهون من بلورة اختياراتهم، ويحز في نفسه هذا الحرمان ليس من القدرة على التجول في الشوارع وفي الساحات العامة فقط، بل أيضًا الحرمان الذي تتفق عليه معظم القوى الفاعلة على الساحة السورية، وتمنع تداول أي شكل من أشكال الاختيار، وإن كان هذا المنع يأخذ أشكالًا وألوانًا ومخابرات كثيرة، وتحميه بنادق ولحى مُجمِعة على فرض إرادتها على السوريين حتى اليوم.
لن نستطيع أن نخرج من هذا التدهور ما لم نجسد خياراتنا الديمقراطية، بشكل عملي اعتبارًا من قدرتنا على اختيار ما نأكل وما نشرب، وما نحب، وما نكره، وأن نختار برفع الأيدي من يمثلنا حتى ولو كنا ثلاثة في منظمة، أو في إدارة، أو في مكتب، أو على درب سفر، بدلًا من إتاحة المجال للأوقح، وللأكثر “سلبطة”، بتمثيلنا بالإجماع، أو بالصمت الذي يدفعنا إليه خوف غامض وعميق في نفوسنا، والذي قد ينتمي إلى طفولتنا في ظل أب، أو أخ، أو معلم متسلط مهّد لكل هذا الاستسلام الذي أنماه الاستبداد، ليستفيد من الامتناع عن قول رأينا الصريح، ولم نعد نستطيع أن نعبر عن أنفسنا إلا بالثرثرة الجانبية، وخارج مساحة المسؤولية، فالتهرب من الاختيار، ومن تحمل نتائج القرار مهما كانت، أودى بنا إلى هذا الضياع والموت والتهجير والدمار.
لقد سُجن أبناؤنا وجيراننا من قبل النظام، وفُرض المسؤولون والنواب علينا، ولم نستطع اختيار حتى مختار صغير، نستطيع أن ندعمه ونثبته بوجه أجهزة المخابرات، فالخوف كان صناعة مدمرة لنا، أنتجت تهربنا ومهدت لتدهورنا الكبير هذا.
الصمت الانتخابي هذه الأشهر، يمتد من تركيا إلى فرنسا إلى ألمانيا إلى بريطانيا، وإلى دول كثيرة يقطنها اللاجئون، وعليهم أن يُسجنوا في خيمهم أو في غرفهم، بنفس الوقت الذي تموج فيه شتى أنواع الابتكارات الاستبدادية في بلادنا وفي أوساط تجمعاتها، ففيروسات الأب القائد، والأخ الأكبر، والشيخ المدعي، الذين يضعون أرجلهم في الميزان، ويكيلون للناس حظوظهم من الاختيارات، ويسوقونهم ليس إلى الصمت الانتخابي الذي يمتد عدة ايام، بل الى الصمت الأبدي بوجه مختلف أنواع السلطات الغاشمة التي تتوالد اليوم، ولعل سلطة النظام ومخابراته ليست إلا محرضًا ومشجعًا على هذا التوالد السرطاني، الذي يؤكد على حرمان الناس من اختياراتهم.
الصمت الانتخابي يسجننا في بيوتنا، ويشعرنا بالحرمان، ليس فقط من التجول في الساحات، ولكن يشعرنا بأن وطننا ليس لنا، ولا لاختياراتنا، بل لاختيارات أمراء الحرب من مختلف الأشكال الدنيوية والدينية، وما علينا إلا أن نمرّن أنفسنا وندربها للدخول في علب السردين التي يصممونها لنا، والتي يؤكدون بأنها واسعة وتكفينا، وينصحوننا بأن نغمض عيوننا، وهم يغلقون العلبة من جديد، بعدما أغلقها علينا البعث ومخابراته طوال السنوات الخمسين الماضية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :