قرعت إدارة ترامب جرس البداية، بل ربما قرعه ترامب شخصياً بإهانته بشار الأسد مرتين، إثر الهجوم الأميركي الصاروخي على مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الهجمة الكيماوية على خان شيخون. لذا قد لا يكون وصف وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون بشار الأسد بالإرهابي الأكبر سوى إضافة بسيطة، ما لم نلحظ أن هذا الوصف يجرّد داعش من المكانة التي حظي بها طويلاً في الغرب، أو يقرّ بما كان معلوماً عن تواطؤ بين نظام بشار وداعش، وعن تنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا لا تخدم فعلياً سوى نظام بشار.
إنتقال بشار من إرهابي محلي مقبول إلى الإرهابي الأكبر يؤكد على جدية الغرب في إزاحته، وهي الجدية التي لم تكن ممكنة مع أوباما الذي أنهكه السعي لاسترضاء إيران والحصول على الاتفاق النووي معها. هذه الصحوة الغربية كانت تنتظر غلطة، من عيار استخدام الكيماوي، للإعلان عن اليأس من إعادة تأهيل بشار، وبالطبع تنتظر الإشارة الأمريكية إلى تغيير في المواقف.
فهم التغير في المواقف الرسمية وربطه بالمصالح الدولية قد يكون مفهوماً أكثر من التحول الذي سنشهده “بالتزامن” في تغطية الإعلام الغربي للحدث السوري، إذ ينطلق الفهم من الفصل الديمقراطي الغربي بين السلطات، ومنها “صاحبة الجلالة” بوصفها السلطة الرابعة، فضلاً عن الواجب الأخلاقي المفترض للأخيرة. فطالما اشتكى السوريون خلال السنوات الأخيرة من تغطية غربية منحازة، تغطية يكاد فيها بعض كبريات الصحف لا يرى سوى تنظيم داعش ووحشيته، ليزداد الانحياز صفاقة مع قيام وسائل الإعلام الغربية بإفساح المجال لبشار الأسد كي يكذب كما يشاء، عبر مقابلات تكاثرت فجأة مع الحديث عن قبول أميركي ببقائه.
قبل شهر مثلاً، لم يكن متوقعاً أن يطل علينا أحد أشهر المذيعين الإنكليز “بيرس مورغان” بمقالة في صحيفة “دايلي ميل” واصفاً بشار الأسد بالقاتل والدموي والعار على الإنسانية، إثر مقابلة الأخير مع وكالة “فرانس برس” الفرنسية والتي نشرت في الثالث عشر من الشهر الحالي. مورغان يعبّر عن صدمته، يا للهول! لأن من قتل 400 ألف سوري “بحسب الرقم الذي أورده” سخر من مقتل الأطفال في خان شيخون متسائلاً عما إذا كانوا قد ماتوا حقاً. ليصل في ما بعد إلى استنتاجه “المذهل”، وهو “أن الوحوش تستمر في كونها وحوشاً حتى يوقفها شخص ما”، في حالتنا ترامب ما، ليختم بالقول “إن الوقت حان للتخلص من بشار الأسد”.
في مقال بيرس مورغان نفسه سنكتشف أن رقم 400 ألف ضحية لا أهمية له، فهو يورد العبارة التالية: “حتى هذا الصباح كنت أعتقد على مضض أن السبيل الوحيد لإنهاء الحرب السورية المروعة هو أن يبقى الأسد في السلطة، مهما كان الأمر غير مستساغ، ثم إزالته من السلطة عندما يتحقق السلام”. الصباح المقصود هنا هو الصباح الذي شاهد فيه مورغان مقابلة الأسد مع الوكالة الفرنسية، لا الصباح الذي أعقب الهجوم الكيماوي على خان شيخون مثلاً، ولا أي صباح آخر تذكر فيه مقتل 400 ألف سوري من قبل مَن يعتقد أن بقاءه في السلطة هو السبيل الوحيد لإنهاء الحرب. الأمر من وجهة النظر هذه محض ذاتي، وإذا تخيلنا على سبيل المثال أن الأسد أظهر تأثراً كاذباً بمشهد الضحايا من الأطفال، ووعد كاذباً بفتح تحقيق حول “الحادث”، ربما حينها سيتأثر مورغان أيضاً ويكتشف أن الوحش إنسان، ولا ندري حينها ما الاستنتاج الذي سيخلص إليه.
المقصود بالإشارة الأخيرة تلك النرجسية الفاضحة التي تجعل من انفعالات مورغان أبلغ تأثيراً من مقتل مئات الألوف من السوريين، وعدم الشعور بالذنب للحظة لأن قناعته السابقة كانت خاطئة ربما على حساب مئات الألوف من الضحايا القادمين. ولتبيان النفاق يحق لنا أن نفترض لو أن إدارة ترامب تجاهلت الهجوم الكيماوي، وأن الحكومة البريطانية أيضاً اتخذت موقفاً مماثلاً، وأنه رأى مقابلة بشار بالعين التي كان يرى فيها ربما صبيحة ضربة الكيماوي نفسها ورؤيته صور الأطفال التي لم تقنعه وحدها بتغيير موقفه. هذه الافتراضات لا تتعلق بشخص مورغان، هي تتعلق أساساً بذلك الاستعلاء الغربي، أو تلك العنصرية المضمرة لدى البعض في الغرب، فهما ما يجعل حجم المأساة السورية متوقفاً على حجم أثرها الغربي؛ مرة من خلال موجات اللجوء، ومرة لأن السفاح خالف البروتوكول الغربي واستهان بصور الضحايا، أي أن الضحايا لا يستمدون قيمتهم من إنسانيتهم فحسب.
نحن نعلم أن جزءاً كبيراً من الإعلام الغربي يتعامل مع القضايا الخارجية بما لا يبتعد كثيراً عن موقف حكوماته، والمسألة لا تتعلق بإملاءات حكومية، ولا بذلك التحليل اليساري الذي يفترض وقوع المؤسسات الإعلامية في قبضة تمويلات رأسمالية ضخمة، فتلك الأمور لا نراها عندما يغطي الإعلام قضايا داخلية ويثبت حداً محترماً من موضوعيته وسلطته. في القضايا الخارجية عموماً تظهر انتهازية الإعلام في عدم التركيز على قضايا خاسرة شعبياً، فالجمهور يتفاعل عادة مع القضايا الخارجية الموجودة على أولويات حكوماته، وفي مقدمها قضايا التدخل العسكري بوصفها الأكثر سخونة وتأثيراً على الداخل. ذلك ما شاهدناه سابقاً عندما استفاق الإعلام الأميركي والغربي عموماً على مأساة يوغسلافيا السابقة، أو عندما أصبح ملف صدام حسين الشغل الشاغل بسبب اتهامه بحيازة أسلحة دمار شامل.
مع ذلك يمكن القول بأن انحياز جزء من الإعلام الغربي إلى السفاح، وعنصرية جزء منه، ظاهرتان مزريتان في عصر غير مسبوق من الانفتاح والازدهار الإعلاميين. من الجيد أن يتراجع قسم من الإعلاميين عن انحيازه السابق، لكن من دون إجراء مراجعة حقيقية لنفاقه لن يسترد صدقيته، خاصة في عصر باتت فيه وسائل التواصل الاجتماعي تنافسه، على كثرة ما فيها هي الأخرى مغالطات وتشويه للوقائع. سؤال “متى يصحو روبرت فيسك؟” هو سؤال ساخر، لأن المعنيّ “ومن خلفه صحيفة الاندبندنت” وصلت به الصفاقة إلى حد تبرير مجازر مثل مجزرة داريا ومرافقة ضباط مجرمين من قوات بشار، وإلى حد اختراع وجه إنساني مقبول لقائد المخابرات الجوية السورية المعروف بدمويته، حتى قبل أن يبادر الإعلام الروسي الحليف إلى إجراء حوار مماثل مع المذكور. الحق ليس من المطلوب أن يصحو فيسك على نمط صحوة مورغان، المطلوب هو شرف إعلامي يجرّم “معنوياً على الأقل” من لا ترف عينه أمام رقم 400 ألف قتيل في أي مكان من العالم.