أبو ذر… اخدموا غرابتكم
حنين النقري – دوما
«يرحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، يموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده»
إذا أردنا تخيل الصحابي أبي ذرّ الغفاري تتبادر إلى أذهاننا مباشرة صورة شخص مختلف يُعمل عقله في ما يخالف المفهوم السائد والآراء العامّة، ينتقدها بأفكار تبدو غريبة عن المجتمع؛ وحيدة جريئة وغير مسبوقة…
يمشي في الأسواق بين تجّار محتكرين متحدّثًا عمّن يكنزون الذهب والفضة، يجدّد ويفكّر بمقدار جديد لزكاة المال مما يثير السلطات عليه…
أفكاره المتفرّدة الساعية لخير الإنسان في زمن الطغيان تجعل السير إلى جانبه خطرًا يتحاشاه الناس، النتيجة أن يمشي وحده -كما أنبأ النبي-، يمنع الخوف من حوله من البقاء إلى جانبه في لحظات موته حتّى… يموت وحده، النتيجة الطبيعية لكلّ هذا أن يكافَأ يوم القيامة ببعث منفرد عن العقل الجمعي والمجموع السائد، بعثه وحسابه سيكون منفردًا أيضًا… وفق تصوراته هو.
لا تكمن أهمية شخصية أبي ذرّ في الأفكار التي نادى لها فقط؛ بل في «الغربة» التي تعاني منها أي فكرة جديدة في المجتمع، حياته دروس تاريخيّة في الدفاع عن «الغرابة» التي سيواجهها أي شخص متمرّد على قيم عصره وما يسوده، تهيئته لما سيلقاه من الصعوبات، وتطمينه لما يواجهه من الاتهامات.
ولكلّ عصرٍ أبو ذرّه الخاص به، وفي كل من فترة من الفترات أشخاص يعاقبهم المجتمع بالإقصاء لتمرّد أفكارهم، لخروجها عن دائرة مألوفهم… وما يركنون له.
الثورة أيضًا قامت بأمثال أبي ذرّ، وأمثاله اليوم ممن أشعلوا شرارتها قابعون في السجون أو مطمئنون تحت الثرى؛ أو مستمرون بغرابتهم وتمرّدهم على ما نراه اللحظة… ليكونوا «أبا ذرّ» اللحظة أيضًا.
فالثورة ليست فكرة ثابتة نسلم لها عقولنا ونمشي وراءها فقط على طول الدرب، هي مواقف وتحدّيات وتغيرات في كل لحظة، ينبغي أن نكون واعين لها؛ غير مسيّرين بها، لنا الخيار والقرار فيما يتناسب مع الهدف الذي خرجنا ﻷجله أساسًا «الإنسان».
في المرحلة التي عانى فيها المتظاهرون من بطش قوات النظام بهم، وغدرهم وتنكيلهم وهجومهم المباغت لجموع المدنيين العزّل، اختار أحفاد أبي ذرّ حمل أسلحة فرديّة لحماية المظاهرات… كان اضطرارًا ألجأهم النظام له، واختار أبو ذرّ حمل البندقية، دفاعًا عن «الإنسان».
اليوم، أعتقد أن أبا ذرّ لن يختار حمل «البندقيّة»، في ظل تحوّل مفهوم الثورة لدى معظم أتباعها من «تحرير الإنسان وكرامته» إلى «تحرير الأرض والتراب والسيطرة عليها»، وما يخلّفه انسحابهم من بعض الأماكن من مجازر وويلات بحقّ المدنيين على يد النظام -النبك نموذجًا-.
خيار أبي ذرّ اليوم سيكون غريبًا -كما كان على الدوام- عن كل هذا الجو الحربيّ المقيت، سيبدو تفكيره «كافرًا» لدى البعض ممن يدعو للجهاد على أرض سوريا، لكنّ أبا ذرّ لن يبالي وسيستمر في المشي وحده مناديًا بأفكاره المتفرّدة المتحدّثة عن الإنسان وكرامته بين أصوات الرصاص والقذائف.
مجددًا سيكون خارج سرب النظام ﻷنه قاتل للإنسان، خارج سرب الجيش الحرّ ﻷنه -رغم تضحياته وإخلاص جنوده على الجبهات- نسي الهدف الأول له «الإنسان، وخارج سرب القيادات والمعارضة ممن خرجوا بعائلاتهم بعيدًا عن الجوع والحصار والحرب، ولا زالوا يقرعون الطبول ويرفعون الأعلام تشجيعًا لاستمرار القتال وإذكاء أتون الحرب غير آبهين بما يريده «الإنسان» تحت هذه النار.
أبو ذر سيكون أيضًا خارج سرب المؤتمرات العالمية ووعودها الكاذبة…
سيكون له دوما خياره الصادق الخاص به، الساعي ﻷجل الإنسان في كل مكان، راغبًا بإخماد نار الحرب، إطعام الجوعى، فك الحصار، تحرير المعتقلين، إعمار المدن.. إسقاط ظلم الأسد
وكل ظلم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :