بين مغترب ومهجّر .. من مذكرات “متخبط” سوري
على مفترق آخر من مفترقات هذه الحياة أقف لأكتب هذه الكلمات، رغم أنني لم أعتد ذلك قبل اليوم، فالمفترقات التي مررت بها قبلًا لم تكن جديرة بذلك، كانت طبيعية أكثر، ومأساوية أقل… كنا قد غادرنا بلدنا سابقًا، طواعية، نسعى لهدف ونحمل أملًا.. أملًا بأن القادم أفضل، وبأن العودة أمر محتوم، وأن الغربة لن تدوم ولن تطول وإن مرت خطاها ثقيلة. صدى الدعوات «ترجعو سالمين» كان وحده كفيلًا بإحياء ذاك الأمل في قلوبنا.
حملت في قلبي ذكريات كثيرة عن كل شيء، وحملت طفليّ وغادرت ذارفة الدموع حزنًا على فراق الأحبة، ولكنّ إيماني بأن الأفضل بانتظارنا وأن العودة قريبة كان عزائي ومؤنسي في تلك الغربة «الحنونة»؛ فقد نعمت بصحبة طيبة، وجيرة خيّرة، وبيئة اجتماعية وثقافية قدمت المفيد لأولادي، نسترق منها قرابة الشهر لنعود إلى وطننا خلال إجازة الصيف، فنقضي بصحبة الأحبة أكبر وقت ممكن، ونري أطفالنا ما حدثناهم عنه طوال العام.. عن «تيته وجدو» عن «المرجوحة» التقليدية، عن «سندويشة الفلافل»، وعن «لمة العائلة» عند «جدو الكبير»، جدي أنا.
خلال غربتنا تلك حرصنا ألا تسرق منا الأيام والعمل إنسانيتنا، فرغم ضيق الحال بداية، وضيق الوقت لاحقًا كنا نعطي أنفسنا حقها: لمة لعائلتنا الصغيرة، نزهة بسيطة في الحديقة، نشاطات ترفيهية للأولاد…
هكذا أمضينا عشر سنوات، فأحسست أنني أنتزع انتزاعًا من ذلك المكان حين قررننا الابتعاد عن حيث تأقلمنا واندمجنا، وحين قررنا التخلي عن تلك الرفاهيات، والعودة للوطن لننعم براحة بال وقد عزمنا جعل الغربة ذكرى مضت، لا مستقبلاّ منشودًا؛ لكن يبدو أنها كانت قدرًا محتومًا.
حين قررنا العودة تركنا كل شيء وراءنا هناك، يومها تلمست حقيقة أن الإنسان سيترك دنياه يومًا ما، بلا سابق إنذار.
لم تمض أشهر من عودتنا حتى اندلعت الثورة حاملة الأمل والبشرى بالغد الأفضل الذي حلمنا به، وبنهاية المقارنات التي اعتاد أطفالي –الذين أصبحوا أربعة- اللجوء إليها في كل موقف، مقارنات بين بلدنا وبين البلد الذي احتضن نشأتهم. شهدنا ما يزيد عن عام من الثورة، لم نقدم خلالها الكثير ولم نملك سوى التعاطف والدعاء، فبين خوفي على مستقبل الأولاد الذين لم يبلغ أكبرهم السادسة عشرة وبين آراء زوجي التي رأت في مسار الثورة تيهًا طويلًا بين سياسات الدول العظمى، لم نشجع أبناءنا على الانخراط، وحاولنا النأي بأنفسنا والاقتصار على قليل من المساعدات في الخفاء إلى أن حملتنا الأيام إلى مفترق وعر، إلى مجزرة داريا.
أيام عصيبة، وذكريات مريرة، لم يسهل علينا تجاوزها، وربما لم نتجاوزها إلى الآن. ما شهده أولادي يومها كان أعمق من أن يمحى أو يتجاوز في حدود المكان. فلم يكن أمامنا سوى الابتعاد، على عجل، بحثًا عن مكان أكثر أمنًا، عاقدين العزم والنية أن نوجه أبناءنا لفعل الخير وأن نؤمن لهم تربية وعلمًا يفيدون به وطنهم يوم الرجوع.
هذه المرة حوت سلة المشاعر ألوانًا أخرى غير الحزن، ألوانًا من القلق والخوف والترقب؛ الخوف الذي قد يصل حد اليأس، خوف ألا نجتمع ثانية بمن نحب، خوف من الطريق، وخوف مما ينتظرنا؛ وهذه المرة تحققت مخاوفنا قبل أن تتحقق آمالنا، وصلنا لنجد اللاستقرار بانتظارنا، وليرتقي أحبتنا شهداء دون أن نحظى بوداع أخير، أما أطفالنا فلم يحملوا من ذكريات الوطن سوى الدمار والخراب، فابنتي التي بلغت عامها الثاني في الغربة لا تذكر سوى الرصاص، كلما ظهر على التلفاز دبابة، أو إطلاق نار، أو قصف، أو حي مدمر تنادي «تعو ثوفو داليّا»، فداريّا لم يبق من ذكراها في مخيلة صغيرتي سوى الألم. حتى الدعوات تغيرت هذه المرة، فلم تعد «ترجعو سالمين» و «نشوفكم بخير» ما يدور على ألسنتنا.. فمعظم من نعرفهم باتوا مرتبطين بـ «الله يفك أسرو»، «الله يحميه» و «الله يرحمو».. وسلسلة طويلة من هذه العبارات التي كثيرًا ما استعضنا عنها بغصة الصمت.
بقينا على تواصل مع أهلنا رغم سوء خدمات الاتصال هناك، ولعلها نعمة وإن لم نقدرها كفاية، فما ترانا ننقل إليهم… أنزيدهم همومًا بآلام غربتنا وكربنا؟ وما عساها تخبرني أمي.. كيف أنها زفت ابنها شهيدًا دون أن تتمكن من رؤيته؟ أم عن تفاصيل رتابة الحياة وقساوتها في النزوح؟
عام مضى ونحن في غربة عن كل شيء، حتى أننا نكاد نعيش في غربة مع ذواتنا، في بيئة غير مستقرة اجتماعيًا ولا سياسيًا، فقيرة علميًا، ولا تحمل لنا بوادر للأفضل… أو لربما نحن قوم يستعجلون. لا أنكر حسن معاملة البعض هنا، وشفقة الكثيرين التي ضايقتنا أكثر ما أراحتنا، لكن ظروف البيئة عمومًا اضطرتنا للاقتصار على العلاقات الضرورية.
اليوم مخاوفنا تزيد، وهمومنا تثقل؛ فشهادات أبنائي الدراسية قد لا تقبل لأننا لا نحمل إقامة دائمة، وهواجس الخوف عليهم من المرض في بيئة تفتقر الرعاية الطبية، خوفنا عليهم وعلى أنفسنا بأن تموت فينا إنسانيتنا من شدة الكبت… مخاوف وضعتنا أمام مفترق ليس كغيره هذه المرة.. ليس مفترقًا، بل جرفًا علينا أن نقفز لنصل إلى طرفه الآخر، وفي أي لحظة قد ينهار بنا أحد الطرفين، أو قد تنزلق أقدامنا.
دفعتنا الضغوط إلى مافيات الهجرة اللاشرعية؛ بحثًا عن قارب يقلنا إلى بلد آخر قد نجد فيه أبسط شروط الحياة، وأقل ما يلزم الإنسان ليشعر بأنه «حي».
ومشاعر الخوف لا تزال تتخبطنا، الخوف من أننا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، من أننا نلقي بأبنائنا إلى المجهول، بأننا قد لا نعود..
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :