حذام زهور عدي
مضت السنوات الست، وممثلو الثورة السورية العسكريون والمدنيون يخبرون الشعب السوري أن العالم كله معارض لانتصارهم، وأن لا أحد يدعمهم سياسيًا، وأن الداعمين الحقيقيين بقدر ما هم محتاجون لدعمهم بقدر ما يلعبون أدوارًا ليست في صالح انتصار الثورة أو توحدها، فلكلٍ أجندته وعلى من يأكل من خبز السلطان أن يضرب بسيفه.
وبما أن القاعدة الأولى والأهم في السياسة الدولية “فتش عن المصالح وانظر مرتسماتها الواقعية ولا تستمع إلى الأقوال ولا سيما الإعلام وأجهزته”، فإن القيادات الثورية كانت ترى أن مصالح الدول الكبرى صاحبة القرار السوري ليست متفقة مع مصالح تحقيق انتصار جدي على النظام الأسدي، وبأن هذه الأوضاع هي المسؤولة أولًا وأخيرًا عن فشل التوصل حتى إلى حلٍ شبه مقبول يُنصف الشعب السوري.
وقد تكون وجهة النظر السابقة صحيحة، بصرف النظر عن سوء إدارة من تصدى للقيادة السياسية أو العسكرية للثورة.
لكن الوضع الدولي اليوم غير الأمس، وبالرغم من أن قراءات متعددة وشبه شاملة لما يكتبه المحللون الكبار والصغار، الغربيون والشرقيون والعرب وغيرهم، توحي بالتشكيك فيما يحدث، وبأن المصالح ماتزال هي هي، وأن الآمال بتغير جذري يصب في مصلحة الثورة السورية مازالت غير قريبة، فإن رؤية مختلفة بدأت تطفو على السطح، ليس من أجل الضربة الأمريكية الترامبية لمطار الشعيرات فقط، ولا للاختلاف المهم لسياسة الإدارة الأمريكية فقط، ولكن لرؤية المصالح نفسها من زاوية جديدة، زاوية توصل إليها العالم الغربي نتيجة السنوات الست الماضية وطريقة معالجة المشكلة السورية التي أُقفلت الأبواب والنوافذ عليها ووصلت إلى طريق مسدود تُهدد نتائجه بمحرقة جماعية لكل من شارك فيها، الشعب والثورة والنظام والدول الكبرى والإقليمية فلا يخرج أحد منهم سالمًا معافى.
وغالب الظن أن السيد ترامب عندما اتخذ قرار ضرب مطار الشعيرات درس الموضوع جيدًا من جوانب عدة، أهمها مصلحته الشخصية ومصلحة الدولة الأمريكية، ووضعهما في قالب أخلاقي وقانون إنساني ليس من السهل مخالفته، وكأن الأسد المغرور بالتصريحات الأمريكية السابقة قد هيأ له غروره بأن الأمور حُسمت لصالحه عالميًا، فمارس حقيقته الإجرامية التي أوقعه انكشافها في لحظة تاريخية مخالفة لحساباته.
وكل لحظة تاريخية لها حساباتها، وبخاصة إذا كان الوضع زئبقيًا لا يستقر على حال كحال الوضع السوري، فمن غير المشكوك به أن ترامب بحاجة لموقف شخصي يستعيد به شعبيته المفقودة أصلًا والتي تدنت لمستوى غير مسبوق لأي رئيس أمريكي يتولى الرئاسة بالأشهر الأولى لإدارته، والشعب الأمريكي محتاج لصوت أمريكي قوي يعيد لهم الإحساس بالقوة الأمريكية عالميًا بعد الانطباع السلبي الذي خلفته إدارة أوباما ولا سيما مواقفها الروسية والمتوسطية، وترامب رأى المصالح الأمريكية، اقتصاديًا، والتي هي دومًا المحرك الأهم في السياسة الأمريكية، رآها في السيطرة على بترول الشرق الأوسط وغازه وخطوط إمداده، لقاء ضمان حماية مناطقه من الأطماع الإيرانية، ورأى أن توظيف القوة الأمريكية كحامية غير مجانية ضد الأخطار التي لا تستطيع دول مناطق البترول دفعها عنها هو المعادلة المثلى لتحقيق وفر مادي للدولة الأمريكية ولو كان ذلك على حساب التضحية بشيء من التغازل الأمريكي– الروسي الذي يحسب حساب نتائجه جيدًا، ويسلك الطرق الحذرة فيه.
وهو في هذا يُرضي حلفاء أمريكا التقليديين الذين بدؤوا بالانفضاض عن الالتزام بالسياسة الأمريكية، من الاتحاد الأوروبي الذي عانى من التهميش والتهجير والإرهاب المقصود ما عاناه، وبدأ صبره ينفد لدرجة أصبحت أصوات مرشحي انتخابات رئاسته تعلو بوضوح لصالح تعامل مختلف مع روسيا، هذا غير الزيارات المتعددة من دول الخليج لبوتين وإبرامهم المعاهدات السخية معه، وكانت الإهانة الروسية الأكبر للسياسة الأمريكية ليست في الاحتفاظ بشبه جزيرة القرم فقط، وبالتقسيم الأوكراني وإنما بالتمدد الروسي في مصر وليبيا وشمال إفريقيا، وكأن روسيا حكمت على النفوذ الأمريكي في أهم منطقة استراتيجية عالمية بالموت، وقدمت نفسها أنها الوريث الأهم، ومن هنا بدأت أسهم بوتين بالصعود لدرجة اختياره بالصحافة الأوروبية كرجل العام القوي، وهذا ما يفسر لنا أيضًا الأصوات العالية له ولحلفائه باستنكار الضربة المتواضعة جدًا للشعيرات، فليست الضربة بحد ذاتها المهمة وإنما ما ساقته من تغير اتجاه الريح، الذي كانوا باطمئنان شبه مطلق لسير سفنهم من خلاله، وبالطبع فإن الشعب السوري صاحب الأمر خارج حساباتهم جميعًا.
أما السوريون وثورتهم وقيادتها السياسية والعسكرية، فعليهم أن يدركوا بوضوح أن اللحظة مناسبة الآن لتحرك سريع وجاد ومخطط ومنسق، وأن جانبًا من اتفاق المصالح بينها وبين السياسة العالمية تحت القيادة الأمريكية قد لاح بالأفق بعد انتظاره طويلًا، قد يحقق على الأقل تغيرًا جديًا في النظام الأسدي يُفضي إلى تحقيق بعض أهداف السوريين، ويُتيح لهم البناء عليه مستقبلًا لصالح دولة ديمقراطية، ولكن عليهم ألا يركنوا لتغير المناخ الدولي، فما هو متاح اليوم كانوا يشكون من فقدانه بالأمس، وقد يغيب ثانية غدًا.
إنها اللحظة التاريخية، التي على الثوار بأشكالهم جميعها أن يستثمروها أحسن استثمار، سواء كانوا ناشطين مؤطرين أو غير مؤطرين، على كل من له صلة ما بأصحاب النفوذ بأوروبا وأمريكا وحتى روسيا أن يستنفر جهوده اليوم من أجل الاستفادة من الرياح الجديدة، وألا يشكك باتجاهها فنشاطه اليوم هو بوصلة نجاحه أو إخفاقه.
إن اللحظات التاريخية حاسمة في عمر الشعوب، وتضييعها خسارة كبرى لهم، وإذا ضيعت المعارضة السورية هذه اللحظة فعليها السلام.
وإذا كان على التشكيلات المعارضة الموجودة ليس العمل جاهدة فقط، وإنما إتاحة الفرصة للآخرين حتى يعملوا، فإن على الآخرين عدم انتظارها والتكاسل وإلقاء المسؤولية على المعارضة وحدها، فالتلاوم بعد الفشل لن يفيد أحدًا والكوارث وحدها ستجمعهم وتلفهم بإزارها، ولات حين مندم.