يفوز بشار ويسقط أيضاً
بعد انجلاء ملابسات الضربة الأمريكية المحدودة جداً يمكن القول بأن بشار الأسد خرج من المواجهة فائزاً، فالعقوبة الأمريكية هذه المرة أقل فعلياً من صفقة الكيماوي التي أُبرمت مع إدارة أوباما، وإذا نصت الصفقة السابقة على إفلاته وتجريده من أداة الجريمة فالعقوبة الحالية اقتصرت على تدمير جزء رمزي من أداة الجريمة، وتركه طليق اليد مرة أخرى. فوق ذلك، يمكن القول بأن الدعم الروسي والإيراني بعد هجوم الكيماوي الأخير أقوى صوتاً مما قبل، ويوحي بوصوله إلى عتبة دعم أي هجوم كيماوي مستقبلاً والتبرير المسبق له.
هكذا يبدو بشار، وربما طهران من خلفه، كأنهما نجحا في دفع موسكو وواشنطن إلى عتبة من المواجهة يستفيدان منها، ويصبح الدفاع عن بشار شخصياً قضية كرامة بالنسبة للروسي. أو، على الأقل، تعطي التصريحات الروسية والأمريكية الانطباع بأن جسر العلاقات “العلني” بين ترامب وبوتين، الذي يُفترض أن يقيمه وزيرا خارجية البلدين في لقائهما الثلاثاء، قد أصبح ملغّماً، وصارت أية صفقة بين الجانبين أبعد من قبل، خاصة مع الضغوط التي يتعرض له ترامب داخلياً في ملف التواصل مع الروس قبل تسلمه مهامه.
فوز بشار وفق هذه التصورات يعطي رسالة خاطئة عن مكانته في ميزان القوى المتعلق بسوريا، ويُظهره لاعباً أساسياً بخلاف وقائع السيطرة على الأرض التي تذهب باضطّراد إلى موسكو وطهران، مثلما تذهب إليهما القرارات الرئيسية الكبرى. فبشار الأسد، بالمعنى الشخصي وبتمثيله لعائلته، أصبح الاسم الرمزي لصراع القوى في سوريا، بينما تتفق القوى نفسها على هامشيته وسهولة التخلص منه عندما تحين لحظة التفاهم أو المقايضة الكبرى. ولا مجازفة بالقول أن المعنيّ نفسه يدرك، وهذا لا يحتاج نباهة، أن بقاءه بات مرتبطاً تحديداً باستمرار الشق الخارجي من الصراع. أو لنقل إن احتمال بقاء الصراع على ما هو عليه أكبر ضمانة لبقائه، إذ لا يجوز استثناء تيارات موجودة في الغرب تدعو إلى اعتماده بعد انتهاء الحرب. لكن ما يفوت نظام بشار أن قليلاً فقط من تلك الأصوات يدعو إلى بقائه كما هو، فإعادة اعتماده ترتكز أساساً على فرضية تأهيله ليصبح نظاماً سياسياً، ويكف عن أن يكون تنظيماً عسكرياً ومخابراتياً فحسب.
صحيح أن الرأي العام الغربي ليس في أوج تعاطفه مع القضية السورية الآن، لكن جزءاً من هذا التيار يقع منذ أكثر من ثلاث سنوات تحت تأثير تلك المقارنة بين النظام وداعش، وربما اصطناع تلك المقارنة. أسوأ أصحاب هذا الرأي يقرّون بإجرام نظام بشار، ولا يتوانون عن نعته شخصياً بأسوأ الصفات والاتهامات، مع الاستدراك بأنه خيار أفضل قياساً إلى داعش. وفق ذلك، بالقضاء على داعش ستنقضي المقارنة نفسها، وهؤلاء لن يكون في وسعهم الدفاع عمن أقروا بإجرامه بعد انتهاء “الأسوأ” من وجهة نظرهم؛ انتهاء الأسوأ يعني أيضاً انتهاء تكسُّب”السيء” على حسابه.
أتى قصف خان شيخون بالكيماوي في لحظة فاصلة أصبح فيها داعش في أضعف حالاته، من هذه الجهة يمكن اعتبار الكيماوي بمثابة تأكيد للغرب على أن السوء الذي يمثله بشار غير قابل للعلاج. ولعل واحدة من رسائل استخدام الكيماوي تتمثل في إصرار النظام على القبول به بأسوأ صوره كما يراها الغرب، أي بصورة الكيماوي، وفي هذا رفض لأفضل صفقة سياسية يمكن أن يقبل بها الغرب لصالحه. المعنى الذي تنطوي عليه الضربة أن النظام يريد كل شيء، ويطمع في تفويض دولي غير ملتبس في جميع أشكال الإبادة، أو أنه بمشاركة الحلفاء سيعيقون الحرب الدولية على الإرهاب؛ هذا هو فحوى التهديد الروسي للإدارة الأمريكية فور تنفيذ ضربتها، إذ نص على أنها تعيق الحرب على الإرهاب في إنذار لا تخفى معانيه.
لا تحتاج المخابرات الغربية من يخبرها عن الصلات المباشرة بين نظام بشار وداعش، ولا يحتاج المسؤولون الغربيون من يفهمهم أن سلاح الإرهاب الذي استخدمه النظام في عدة مناسبات، في لبنان والعراق قبل سوريا، هو سلاح سيبقى طالما بقي النظام، وطالما أيقن الأخير بفعاليته. على العكس، بناء على المعرفة والفهم، يريد الغرب استخدام قوات النظام بأسوأ ما فيها للمشاركة في ما يسمى الحرب على الإرهاب، قبل أن تحين لحظة معالجة بنية النظام المولَّدة للإرهاب والراعية له. إن واحداً من عوامل استمرار الحرب وظيفتها في إنهاك النظام نفسه مع إنهاك من يُصنّفون في معسكر التطرف، وهو أيضاً واحد من عوامل الإلحاح على حل سياسي لا تسند إنجازه رغبة أو دعم دوليين قويين حتى الآن، إذ تعلم القوى المساندة لما يُسمى الحل السياسي أن الحل لن يُفرض في النهاية على النظام إلا باستخدام أقوى الضغوط من قبل القوى الغربية، أو من قبل حلفائه إذا دخلوا في تسوية معها.
في الواقع لسنا فقط أمام نظام متوحش، بل أيضاً أمام نظام “يتذاكى” ويظن أنه قادر على اللعب على التناقضات الدولية، بما فيه تناقضات حلفائه، وربما يظن أيضاً أنه سيخرج منتصراً على الجميع حتى بعد فقدانه السيطرة الفعلية على معظم مناطق سيطرته الاسمية. هذا المزيج بين الغطرسة الداخلية والتذاكي على العالم هو بالضبط مقتل النظام، أو مقتل رؤوسه على الأقل، وضربة الكيماوي الأخيرة هي حاصل هذا المزيج. قد يكون التذكير باغتيال الحريري مناسباً هنا، فغطرسة النظام حينها، رغم المناشدات التي وجهت إليه من أجل حماية الحريري، أدت إلى ما نعرفه من انتهاء زمنه الذهبي إقليمياً. اليوم ليست غيرة العالم على ضحايا الكيماوي ما تدفعه إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً إزاء بشار، هو يأس العالم من إمكانية إدخال تحسينات على النظام بوجود رؤوسه الحالية. القول بأن استخدام السلاح الكيماوي يهدد أمن الغرب يضمر أصلاً القول بأن بقاء هذه الزمرة، واستخدامها سلاح الإرهاب، هو الذي يهدد أمن الغرب. لقد فهم الغرب رسالة بشار التي تنص على أنه لن يتغير، أما هو فلن يفهم على الأرجح المصير المحتم لمن في مثل موقعه ووظيفته إلا عندما لا ينفعه ذلك الفهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :