ذكريات بيت النزوح.. نافذة إلى المدينة المنكوبة
عنب بلدي – منال شخاشيرو
«افتحوا الباب الآن!» هكذا قاطع الصوت الحاد أحد عناصر الأمن ضحكات الصديقات الثمان المقيمات في منزل راما، البالغة من العمر 23 عامًا، قبيل مغادرتهن المنزل الذي نزحن إليه على أطراف مدينة داريا قبل عام.
تجلس الفتيات اللاتي جمعتهن الأقدار في لبنان بعد سنة من تفرقهن في أماكن مختلفة، تروين ذكريات الشتاء الماضي وتبحن بما حملت ذاكرتهن من حكايات أيامهن الأخيرة على مشارف مدينتهن التي لم يبق فيها إلى ذكرياتهن.
تقول أماني التي نزحت من منزلها بعد اشتداد الحملة على داريا: اخترنا منزل راما لوقوعه في مكان استراتيجي، في المنطقة الفاصلة بين داريا وصحنايا في ريف دمشق الغربي، وقد وجدنا هناك فرصة لإعادة توحيد حراكنا السلمي، لنبرهن أن الحصار لن يثنينا عن قضيتنا بالمطالبة بالحرية والكرامة والعدل.
أما راما صاحبة البيت فتقول: عملت مع صديقاتي في الإغاثة تحت غطاء فريق الهلال الأحمر السوري، حيث داومنا يوميًا منذ الصباح الباكر ووزعنا الطعام والدواء على نازحي داريا الذين لجأووا إلى المسجد القريب من منزلي، لنعود عند الظهيرة فنأخذ قسطًا من الراحة قريبًا من النافذة المطلة على مدينتنا، داريا، نترقب القصف. وعند عودتنا إلى العمل كنّا في بعض الأحيان نتبع مبدأ «الحيط الحيط.. وقول يا رب السترة»، خوفًا من أن تطالنا رشقات الرصاص التي يطلقها القناص المتواجد على محاذاه المنزل. وعند المساء نعود إلى البيت، وعلى النافذة المطلة على داريا تروي كل واحدة منا ما رأته من معاناة والدموع تنهمر من أعيننا ألمًا لما آلت إليه حال مدينتنا، وأصوات القصف تتواصل دون انقطاع ممزوجة بأنغام أغنية « ياستي ليكي ليكي… قذايف حواليكي» التي اعتدنا على سماعها معًا.
تضيف عهد (27 عامًا): أكثر ما كان يروق لي اجتماعنا في تلك الغرفة التي تطل على داريا، بالرغم من مساحة منزلها الكبيرة إلا أننا كنا نختار أن ننام فوق بعضنا البعض، فنتزاحم على أخطر مكان في تلك الغرفة لنراقب التطورات عن كثب ونتسابق بتحديد المكان الذي تستهدفه قذائف طائرات الميغ.
لم تخف الصديقات أصواتُ الرصاص التي كانت تطلق من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة تحت المنزل، إلا أن حملات المداهمة التي كانت تطال المنزل بعد تلك الأصوات هي ما كان يخيفهن ويدفعهن لإخفاء كل ما يملكن من أجهزة الكترونية وأغراض ثورية.
وعلى الرغم من الخطر المحيط بهن إلا أنهن بقينّ حتى آخر لحظة يخلقنّ جوًا من المرح، يصنعن الحلويات تارةً ويرقصن على وقع الأغاني الثورية تارة أخرى، وذلك قبل أن تأتي قوات النظام مجبرة إياهن على الرحيل من المنزل إذ قطعت عنهن المياه ولم تسمح لهن بالصعود إلى سطح المنزل لإصلاح ما أفسده قناص النظام عن عمد.
تقول راما: كان آخر ما سمعته من قوات النظام تهديدًا واضحًا لي ولصديقاتي «الله يعنيكن اجى بكرا ولاقيكن بالبيت»، بعد أن كان قد طلب منا الرحيل عن المنزل، فغادرناه خوفًا على حياتنا من خطر بات وشيكًا.
وهكذا رحلت راما وصديقاتها السبع وهن يحملن في قلوبهن ذكريات عزيزة، رحلن آملات في العودة يومًا ما، لتشاء الأقدار أن يلتقين من جديد بعد سنة لكن خارج الحدود السورية بعد أن تعرض بعضهن للاعتقال وعاش بعضهن الآخر مأساة النزوح من بلد إلى بلد. أما البيت الذي شهد تلك اللقاءات فقد سُرقت محتوياته واتخذته قوات الأمن مستوطنًا لها.
تقول راما: لم يكن ينقص جمعتنا اليوم سوى أصوات القصف وتلك الإطلالة على مدينة داريا من منزلي في صحنايا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :