فلاديمير بوتين صانع ألعاب ومرتب مفاجآت. تعلم في مدرسة «كي جي بي» فضيلة إخفاء النوايا. تعلم أيضاً أهمية سلاح التضليل في كسب المعارك. ولا مبالغة في القول إن القادة الغربيين لم يحسنوا القراءة باكراً في عيني الرجل. انتظر وحين استجمع قواه راح يسدد الضربات. وكان عهد باراك أوباما المديد فرصته الذهبية.
كان بوتين يأمل أن يكون عهد ترمب عهد الاعتراف بانتصاراته من القرم إلى سوريا، مروراً بأوكرانيا. وثمة من تحدث عن صفقة كبرى. واتهم كثيرون ترمب بأن فوزه بالبيت الأبيض يحمل بصمات سيد الكرملين.
وبدا الرئيس الروسي مرتاحاً حين هبت رياح الواقعية على واشنطن وعواصم أخرى. الأولوية لتدمير «داعش»، وإسقاط الأسد ليس هاجساً أو هماً. يمكن تركه للسوريين والمفاوضات. وتحدث بوتين في لقاءاته عن خطة تدريجية للحل تبقي الرئيس بشار الأسد حتى 2021.
«أوباما شيء وأنا شيء آخر». لا تخطئوا في الحساب. كان دونالد ترمب ينتظر فرصة تأكيد ما حرص على تكراره مرشحاً ورئيساً. حين أبلغته أجهزة الاستخبارات أن قوات الأسد استخدمت غاز السارين في خان شيخون، التقط الفرصة. سدد ضربته إلى مطار الشعيرات السوري وأصاب ثلاثة أهداف: نظام الأسد وصورة بوتين والداخل الأميركي.
أعادت الضربة إظهار نظام الأسد في صورة نظام يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. استعادة أميركا قدرتها على اتخاذ القرار على المسرح السوري، أعادت إحياء التحالف الرافض لنظام الأسد وممارساته. انتعشت فكرة المناطق الآمنة.
أصابت الضربة أيضاً الرواية الروسية عن الحرب السورية، وتحديداً في الملف الكيماوي. افتقرت حكايات ممثل روسيا في مجلس الأمن إلى القدرة على الإقناع. بدت روسيا في صورة من يغطي ممارسات تذكر بويلات الحرب العالمية الثانية. يمكن القول أيضاً إن الرواية الإيرانية أصيبت، فخطورة «داعش» لا تكفي لتغطية مشاهد خان شيخون ومثيلاتها.
أصابت الضربة أيضاً فريقاً أميركياً كان يعتقد أن ترمب مدين لبوتين. وأنه سيسلم بسوريا الروسية بذريعة قطع الطريق على قيام سوريا الإيرانية.
من المبكر التسرع والقول إن الضربة الأميركية لمطار الشعيرات تشكل منعطفاً في الأزمة السورية. لكن لا يمكن التقليل من أهمية ما حدث. التهمة التي استخدمت لتبرير الضربة تجعل من الصعب على إدارة ترمب التراجع إلى موقفها السابق. الأمر نفسه بالنسبة إلى من أيدوا الضربة.
حيّرت قصة خان شيخون المراقبين. لماذا استهدفت وبهذا النوع المحظور من السلاح في وقت كان النظام حقق تقدماً، على الأقل لجهة إرجاء البحث في مصيره ومصير رئيسه. أسئلة كثيرة. هل أراد النظام الإفادة من تحسن أوضاعه لتوجيه ضربات قاضية إلى المعارضة والفصائل على أنواعها؟ وهل صحيح أنه بات يفتقر إلى العدد الكافي من القوات البرية المقاتلة لتحقيق انتصارات، فصار يعوّل على وسائل أخرى على الرغم من خطورتها؟ هل كان قصف خان شيخون امتحاناً لترمب؟ وهل يخدم الرد الأميركي الفريق الذي يدعو إلى استمرار الحرب ويعتبر كل تسوية خسارة؟ وهل تعتبر إيران مستفيدة من ابتعاد خطر التفاهم الأميركي – الروسي في سوريا؟
لن يترك بوتين الضربة الأميركية بلا رد لكن الخيارات محدودة. في 2013 نجح في خداع أوباما. أعطاه ترسانة الكيماوي السوري وضمن عملياً سلامة النظام وابتعاد الجيش الأميركي عن المسرح السوري. ابتهج أوباما بالهدية، فقد كان يعتبر سوريا فخاً لا فرصة.
واضح أن الضربة الأميركية سمّمت العلاقات بين واشنطن وموسكو. استعادة أميركا هيبتها تعيد ترميم المحور المؤيد لها. أي قرار أميركي بتسليح المعارضة المعتدلة سيقلق بوتين، وينذر بتحويل سوريا من فرصة لروسيا إلى فخ مجهول النتائج. أعادت ضربة ترمب فرض قدر من العزلة على النظام السوري وأصابت صورة روسيا. من المبكر أيضاً الجزم بأن بوتين لا يملك غير خيار تعميق التحالف مع إيران، والضلوع في مواجهة مديدة على مسارح الشرق الأوسط. هذا خيار مكلف لا طاقة للاقتصاد الروسي على احتماله.
في الأسابيع الماضية، تقدم خيار سوريا الروسية على ما عداه. بدا واضحاً أن بوتين يمسك بخيوط اللعبة. أنهك المعارضة المعتدلة أكثر مما أنهك «داعش» و«النصرة». وصل الأمر بكثيرين إلى اعتبار سوريا الروسية حلا مقبولا. فجأة تقدمت مجزرة خان شيخون وتبعتها الضربة الأميركية. تغير المشهد.
خصمك الضعيف هو أفضل حلفائك. أغلب الظن أن بوتين يشتاق إلى عهد أوباما. كان الرئيس الأميركي السابق يدير سياسة الهرب من الأفخاخ، ما حوّل الأزمات المشتعلة فرصة لخصومه. على بوتين إعادة ترتيب أوراقه، لأن الرجل الجالس في المكتب البيضاوي يحب هو الآخر دور صانع الألعاب ومهندس المفاجآت.
المؤلم أن كل هذه المباريات المروعة تجري على الملاعب العربية. ومن عادة العربي أن يقيم بين مذبحتين. لم يكد يستفيق من أهوال مجزرة خان شيخون حتى داهمته مشاهد مذبحة الكنيستين في طنطا والإسكندرية. يا للهول.