جريدة عنب بلدي – العدد 16- الأحد – 20-5-2012
تعود اليوم إلى ذاكرة أهالي داريا تلك المشاهد المنصرمة من عام، إذ أنه وفي مثل هذا اليوم 19 أيار 2011م، جاءنا نبأ اعتقال كلٍ من محمد سعيد خولاني وطارق زيادة، فكان النبأ عاصفة هزت كيان أصدقائهما وذويهما، ومما زاد في غرابة المشهد طريقة اعتقالهما التي سنرد على ذكرها.
محمد سعيد خولاني، طارق زيادة…
سيرة حسنة ورجولة بحق..
محمد سعيد خولاني (39 عامًا)، ويكنى بـ (أبي مسلم)، ناشط سلمي، متزوج ولديه أربع بنات، وصاحب مكتبة حرص أن يضم في جنباتها ما يشجع الجيل الناشئ على التفكير والاهتمام بالثقافة، ويتميز بروحه المرحة وإصراره ومثابرته، كما يتمتع بمحبة واحترام غالبية من يعرفه.
طارق زيادة (40عامًا)، ويكنى بـ (أبي زياد)، ناشط سلمي أيضًا، وصديق أبي مسلم المقرّب، متزوج ولديه أربعة صبية، يعمل فني تصوير شعاعي، ويتميز باتّزان شخصيته، وإخلاصه وإتقانه لعمله، كما ويتمتع باحترام كبير من الناس.
أبو مسلم… أبو زياد… عودة إلى ما قبل الثورة
عُرفا بسلميّتهما، إذ شاركا مع رفاقهما في تجربة داريا (2003م)، والتي كانت من أولى التجارب المدنيّة، وأبرزها في سوريا، إذ قررا أن يساهما في تغيير ما مسّ قومهما من سوء وانتهاك للحريات، فشاركا في مشاريع التجربة الأربعة، من مظاهرة صامتة استنكارًا للغزو الأمريكي للعراق، إلى حملة توعية ضد الرشوة، ثم حملة تنظيف لأحد أحياء داريا، وكذلك دعوة لمقاطعة السجائر والمنتجات الأمريكية.
واستمر تواصلهما مع شباب داريا بعد هذه التجربة، ولم يغب عن ذهنهما التفكير بطرق لتخليص أبناء بلدتهما مما علق بأذهانهم من أوهام حول الطاغية، وأنه قوة لا تُهزم، ثم كان لهما نصيب في الاجتماعات التي بدأت تُعقد للتحضير بإطلاق بوادر الثورة في داريا.
في ثورة الكرامة
يُذكر أنهما كانا من أوائل من شارك في ثورة الكرامة، فقاما بالتظاهر في داريا، وشاركا في تنظيم تظاهرات البلدة، وكان هاجسهما كما كل شباب داريا، إعطاء الصورة الأفضل عن مدينتهم، وكانا يؤكّدان مع المتظاهرين على الطرق السلمية المجدية التي يمكن اتّباعها للوصول إلى الغاية المنشودة في بناء دولة مدنيّة تضم الشعب السوري بكل أطيافه، وتحترم القانون والدستور وتعمل بهما.
ثم ما لبثا أن حوّلا نشاطهما إلى العاصمة دمشق، وكانا من أوائل من نظّم أول مظاهرة في كفرسوسة في دمشق، وذلك في جمعة حرائر سوريا (13أيار 2011م)، فلم تستطع رجولتهما الصمت أمام انتهاك حرمات الشعب السوري، وامتداد سلسلة الاعتقالات لتطال حتى الفتيات، وكانت النتيجة أن اعتُقل طارق، ليعود أبو مسلم وهو يخفي دموع الحزن لفراق صديقه، ولكن ما لبث أن أُفرج عن طارق بعد أربعة أيام من اعتقاله، ليعودا كما كانا بروح أسمى، وهمة أعلى تطال السماء بكبريائها، وصمما أن يضعا بصمتيهما في ثورة الكرامة، فتركا أثرًا لا يُنسى جعل كل شارع في داريا يشتاق لخطواتهما، وكل شاب داراني يحلم أ ن يضحي كما فعلا.
طريقة اعتقالهما…
واستمرار الملاحقات الأمنية لناشطي داريا
تمتد يد الغدر لتطال أبا زياد في كمين وضيع يدل على دناءة المخابرات الجوية وآلية عملها اللا إنساني، فتم دس رجل ادّعى أنه من مدينة معضمية الشام ليقوم بملاحقة أبي زياد من مكان لآخر مطالبًا إياه بمساعدته في إسعاف مصاب، وبعد مطالبته الطويلة واستجداء إنسانيته وافق أبو زياد، فما لبث أن تكلم بالموافقة حتى انقضت عليه قوات الأمن في الشارع في مدينة دمشق، وكان أبو مسلم صديق دربه معه في ذاك اليوم، وحتى الآن لم يعودا، وقد شوهد الصديقان كثيرًا في إدارة المخابرات الجوية في باب توما، ولم ترد أية معلومات جديدة عنهما منذ شهرين على الأقل، حيث اختفيا مع الكثيرين من معتقلي داريا القدامى.
و يُذكر أنه لم ترتدع القوات الأمنية عن فعل أي شيء للإيقاع بالناشطين السياسيين، ظنًا منها أنها بذلك ستوقف الحراك الثوري في داريا، إذ ما زالت السلطات مستمرة حتى الآن في نهج الاعتقال التعسفي لأولئك الناشطين وملاحقة المثقفين وبعض المواطنين، إذ تقوم بمداهمة المنازل، ونصب الكمائن، وتعميم أسماء المطلوبين على الحواجز الأمنية وعلى الحدود لمنعهم من السفر، وكذلك ملاحقة أسر وعوائل بعضهم، بل وحتى اختطاف أفراد أسرهم للضغط على الناشطين كي يسلموا أنفسهم منتهكة بذلك وبشكل صارخ الحريات الأساسية التي يكفلها الدستور السوري، وكل هذا في ظل الإعلان عن إلغاء حالة الطوارئ.
عوائل المعتقلين… عام على غياب عماد دارهم..
تجلس أمهات المعتقلين يتضرعن للمولى أن يرد أبناءهن سالمين، وأن ينجيهم من أيادي النظام الذي لا يعرف الرحمة أو الإنسانية، وتروين حكايات عن بطولات أبنائهن، وعن حبهم للخير والتضحية وكذا عن مشاركة أبنائهن في ثورة الكرامة، ثم يُخيّل إليهن صور أبنائهن يدخلون البيت، تقبّله الأم وتضمه إلى صدرها، لتصحو من غفوتها على صوت الأب العائد لتوّه من زيارة المعتقلين الذين يرده أنه أُفرج عنهم، في محاولة منه أن يلملم أخبارًا عن ابنه المتنقل بين الفروع الأمنية حسبما يخبره الأحرار.
والزوجة تنتظر صوتًا عبر سماعة الهاتف، علّه يكون صوت زوجها، أو صوت رفيق درب التقى معه في زنزانة خلف قضبان حديدية، ربما يطمئنها عن حاله، ويخبرها أين تركه، ويقص عليها القصص عن صبر زوجها هناك، وتستمر في تعليم أبنائها حب الوطن، والتضحية لأجله، راسمة في مخيّلتهم أجمل صورة لوالدهم المُغيّب.
ويتفطر القلب ألمًا على مشهد أبناء المعتقلين، فالصغار منهم كادوا ينسون ملامح وجه أبيهم، وكلما لمحوا رجلًا في الشارع –كما تقول الجدة- يركضون عليه.. هذا أبي… عاد أبي…» ويتعلّمون العدّ (3،2،1،…)، وهم يحسبون أيام السنة ينتظرون عودة والدهم سالمًا، وهاهي الآن تمرّ سنة كاملة وقد غُيّب والدهم عن ناظريهم، وصوته لم يعد يملأ زوايا البيت، وحسبهم صورته يستأنسون بها، وكلمات أمهم عن جميل صنع والدهم.
ويُذكر أن تيسير خولاني (الأخ الأكبر لأبي مسلم)، قد اعتقل في 6أيلول 2011م، بعد مداهمة مزرعة كان يوجد بها ورفاقه مازن زيادة ومعن شربجي، وكذا اعتقل أبناء إخوته، وأحد إخوة طارق زياة.
سيبدأ مع حلول الشهر القادم مرور عام جديد على الكثيرين من معتقلي داريا في سجون المخابرات الجوية، فالشاب محمود جنح اعتقل بتاريخ 23-5-2011 م، ورياض جنّح اعتقل بتاريخ 6-6-2011م ، يُبعدان عامًا كاملًا عن أبويهما، كما هو الحال مع طالب زيادة الذي اعتقل بتاريخ 21-6-2011م، وكذا وائل الون الذي اعتقل بتاريخ 25-6-2011م، ولا ننسى أن هناك في كل مدينة ثائرة أبطالًا آخرين مر عامهم الأول وهم ما يزالون في سجون من يزعم أنه يصدر مراسيم العفو «الرئاسية» للإفراج عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، عداك عن بنود مبادرة عنان بإطلاق سراح جميع معتقلين ثورة الكرامة.
هذا الحال المأساوي مع معتقلي الثورة السورية فقط ..فكيف بنا مع المعتقلين منذ أحداث 1980م، والذين لم يعرف عنهم أي شيء حتى الآن، ففي كل مرة يصدر فيها مرسوم للعفو تتراقص قلوب الأمهات والزوجات أملًا، ولكن الأسد يوجه الخيبة تلو الخيبة للقلوب، وكيف بنا مع الأنباء التي تردنا عن تصفية لمعتقلين في السجون.
وما عسانا فاعلين سوى الاستمرار بثورة كرامتنا، وفعل أي شيء للمطالبة بأبنائنا المعتقلين.