معتز مراد
رئيس جنوب إفريقيا الأسبق، من الزعماء القلائل الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، حيث طافت سمعتهم البلاد شرقًا وغربًا، وحظي بلقاء أهم قادة ورؤساء العالم، فما هو سبب عالمية هذا الزعيم الإفريقي.
نلسون مانديلا من مواليد 1918م، درس القانون، وكافح سياسة التمييز والفصل العنصري في بلاده ضد السود، وقام بحملة تحد لتلك السياسية عندما ترأس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، حيث اتصل وقابل عددًا من رؤساء الدول لتأمين الدعم اللازم للسلاح لمواجهة الحكومة القائمة. وفي عام 1962م حُكم عليه بالسجن المؤبد، وبقي فيه 27 عامًا، وخلال فترة سجنه الطويلة، أصبح مُلهِمًا للكثير من أبناء عرقه في سعيهم المستمر للمساواة وتحقيق مبدأ العدالة بين بني البشر بعيدًا عن اللون أو الانتماء.
وبعد إطلاق سراحه انتخب رئيسًا لحزب المؤتمر، وقاد المفاوضات مع الرئيس دي كليرك لإلغاء الفصل العنصري وإقامة انتخابات تعددية في عام 1994م، وفاز مانديلا بانتخابات الرئاسة، وشرع في تأسيس دستور جديد للبلاد، حيث شكل حكومة وحدة وطنية في محاولة لوأد الفتنة العنصرية والتوترات العرقية. وأسس لجنة للحقيقة والمصالحة، مهمتها التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في العقود الماضية، والتي شهد تشكيلها جدلًا وانتقادات كثيرة، حيث كان من مهمتها التحقيق في جميع الجرائم المرتكبة من قبل الحكومة وحزب المؤتمر الوطني.
واستمر مانديلا في اتباع السياسة الليبرالية السابقة، ولكنه عرض خططًا جديدة لتشجيع الإصلاح الزراعي ومحاربة الفقر وزيادة الرعاية الصحية والتعليم لأبناء شعبه. كان مقتنعًا أن المصالحة الوطنية هي المهمة الأساسية خلال فترة رئاسته، بعد أن شاهد كيف تضررت الاقتصادات الأفريقية في المرحلة ما بعد الاستعمارية بسبب رحيل النخب البيضاء، حيث عمل على طمأنة السكان البيض في جنوب أفريقيا بأنهم ممثلون في الأمة والعملية السياسية.
حاول مانديلا تكوين أوسع تحالف ممكن في فترة رئاسته، فعين دي كليرك في منصب نائب أول للرئيس، في حين أصبح غيره من مسؤولي الحزب الوطني وزراء للزراعة والطاقة والبيئة والطاقة والمعادن. بلغ عدد السكان الإجمالي عندما تسلم مانديلا رئاسة جنوب أفريقيا 40 مليون نسمة. ولكن حوالي 23 مليون منهم كانوا يفتقرون إلى الكهرباء أو الصرف الصحي، و12 مليون يفتقرون إلى إمدادات المياه النظيفة، و2 مليون طفل غير ملتحق بالمدارس، وثلث السكان أميون، وبلغت نسبة البطالة 33٪، وحوالي نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر. كانت الاحتياطيات المالية الحكومية على وشك النضوب، وخمس الميزانية الوطنية مخصصة لسداد الديون. مما يعني صعوبات كبيرة ستواجه برنامج إعادة الإعمار والتنمية الموعود. وخلال فترة رئاسته ارتفع الانفاق على الرعاية الاجتماعية إلى 13%، كما تم تقديم الرعاية الصحية المجانية للأطفال تحت سن معين. وفي عام 1999 وأثناء الانتخابات الرئاسية، استطاع حزب المؤتمر الوطني أن يتباها بإنجازاته، حيث تم ربط 3 ملايين شخص بخطوط الهاتف، والتحق 1.5 مليون طفل بنظام التعليم، وتم توصيل 2 مليون شخص بشبكة الكهرباء وإيصال المياه إلى 3 ملايين نسمة، وتشييد 750 ألف منزل، وإسكان ما يقرب من 3 ملايين شخص. وكان قانون إعادة الأراضي من أهم القوانين التي دعمتها حكومة مانديلا، حيث مكنت الناس من استرجاع أملاكهم المفقودة.
ولكن هذا لا يعني أن فترة رئاسته كانت سَلِسَلة أو لا تواجهها المشكلات، فقد فشلت الحكومة في الحد من انتشار الجريمة في جنوب أفريقيا، الذي يعتبر من المعدلات الأعلى عالميًا، كما فشلت في الحد من انتشار مرض الأيدز، حيث كان عُشر السكان مصابين به. وعلى الصعيد السياسي العالمي كان لمانديلا بصمة في حل الخلافات وفض النزاعات ودعم قضايا الشعوب المضطهدة. فقد عُين أمينًا عامًا لحركة عدم الانحياز في 1998م، وانتقد السياسة الإسرائيلية في فلسطين، وكان له دور في الوساطة بين ليبيا وأمريكا-بريطانيا، وحل الخلاف في قضية الطائرة (كان الاقتراح أن تجري المحاكمة في بلد ثالث وهذا ما تم لاحقًا).
لم يرشح مانديلا نفسه لولاية رئاسية ثانية، ولكنه استمر في نشاطه السياسي والإنساني. فأسس مركزًا لمكافحة مرض الإيدز، وشغل منصب الوسيط في أزمة بوروندي التي تُوِّجت بمؤتر للسلام. وانتقد بشدة التدخل الأمريكي-البريطاني في العراق، وقال يومها: ليس هناك دولة في العالم ارتكبت فظائع غير قابلة للوصف مثل الولايات المتحدة الأمريكية وهم لا يبالون.
حصل مانديلا على جائزة نوبل للسلام سنة 1993م. وعدد كبير من الجوائز الأخرى. وكانت حياته حافلة بالصعوبات والانجازات والتحديات، وفشل في قضايا أخرى، ولكنه في المحصلة كان بطلًا قوميًا وملهمًا لكثير من شعوب العالم. لقد رحل بعد خمس وتسعين عامًا. نلسون منديلا؛ الأب الروحي للأمة الأفريقية.