طريف العتيق
تعرّف الرياضيات عادةً بأنها لغة العلوم، إذ تتناول مواضيعها المفاهيم المجرّدة الدالة على الكم، لدراسة القياس والحساب والهندسة والأبعاد وغيرها، وتقوم على المنطق والبراهين الرياضيّة، ومن هنا تأتي صعوبتها في الدراسة والتدريس، لا سيما في منظومة تعليميّة تفرض على جميع الطلاب المفردات ذاتها، رغم اختلاف أنماط ذكائهم (لا يشكّل الذكاء الرياضيّ سوى نمطًا واحدًا من سبعة أنماط للذكاء)، لذا تعتبر الرياضيات مادة غير محبوبة وسيئة السمعة بين الطلاب.
لكن هذه الكراهية للرياضيات في سياقها التعليميّ، لا تنعكس على ما يلي.
فمنذ أن تعلّم الإنسان العدّ والحساب، بدأ يتخلى عن القيم الجماليّة في الوجود، وفقد ارتباطه بحقائق الأشياء لصالح مقاييسها الظاهريّة.
من أبسط المواقف عندما يستيقظ أحدنا من النوم، يبدأ بحساب كم ساعة قضى في نومه، واحد اثنان ثلاثة… سبعة، ثمانية وعشرين دقيقة، ليحدّد إذا ما كان سيقوم من فراشه أم سيتابع نومه، لقد أخبرتنا الرياضيات «برقم» ما، هو الرقم الذي «يجب» على الإنسان أن ينامه في كل ليلة.. لمَ لا نتبع صوت جسدنا وحاجته، فإذا استيقظنا بنشاط فلنستغل الفرصة لعملٍ شيء مفيد، وإلا فلنأخذ القسط الذي نحتاجه.
أعلم أن ما سيقال بأن «الكسل» عندها سيدفع المرء لينام أكثر من حاجته، وهذا ليس عيبًا في طريقة اتباع لغة الجسد، بل في غياب هدف يدفع المرء للنهوض من فراشه.
«أديش بدنا لنرجع متل أول؟» واحدٌ من الأسئلة الأكثر طرحًا هذه الأيام، فالذي يعوّل عليه الناس «الزمن» في إصلاح ما يرونه، أو أنه العامل الأكثر أهمية في المعادلة، هذا التركيز غالبًا ما يكون على حساب قيم أخرى أكثر أهمية حقًا، الجهد الذي يجب أن نبذله، الأفكار الخلّاقة التي يحتاج إليها الواقع، الإخلاص الذي نفتقده في العمل، الإتقان في إنجاز المهام، الإحسان في إدارة الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف ضمن الإمكانيات.
الذي يسيطر على تفكيرنا الباطن «كم من الوقت نحتاج»، لا «ما الذي يمكننا فعله»، أو «ما الذي ينقصنا من قيم العمل؟».
كيف ترتّب المدرسة الأطفال في صفوفها؟
ببساطة حسب تاريخ ميلادهم، المعيار الأكثر سهولة في القياس، وليس في مجموعات حسب مواهبهم، أو تبعًا لنوع ذكائهم أو اهتماماتهم، أو حسب أعمارهم العقليّة، وهذه واحدة من مصائب التعليم الرسميّ حاليًا.
أخبرني متى ولدت وسأخبرك حالًا ما هي المعارف التي «يجب» أن تدرسها.
في الزواج أيضًا كثيرًا ما نبني علاقاتنا الزوجيّة على أساس العمر المناسب (رقم)، لذا نسمع تقييمات من قبيل «كبيرة عليك، صغيرة لك، مناسبة، لا زال مبكرًا على ارتباطك، لقد تأخر بك العمر ولم تتزوج بعد».. وهذه كلها تدور حول الأرقام، متجلية في عمرك وعمر الطرف الآخر والفارق الطرحي بينهما، هكذا بعملية رياضيّة بسيطة يختزل كلّ شيء.
ويغيب عنا أن نكون الشخص المناسب، وأن نبحث عن الشخص المناسب (أو نفشل في فعل ذلك رغم رغبتنا الصادقة به أحيانًا، بسبب سيطرة عالم الأرقام على تفكيرنا)، لذا نرى أن علاقات الصداقة أكثر عمقًا وصدقًا ونجاحًا من علاقات الزوجيّة في أحايين كثيرة.
– أديش بدنا لنرجع متل أول.
– أديش صرلنا مع بعض.
– اديش رح نبقى مع بعض.
– ما صرلنا غير يومين مو حين لسه.
– إنت أصغر مني.
المقاييس التي تقدمها الأرقام ليست خاطئة بالمطلق، مشكلتنا معها عدم دقتها (نستخدمها لسهولة قياسها لا أكثر)، وتغليبها على القيم الجمالية والحقيقية في حياتنا وعلاقتنا ومعاشنا.