بعد خروجه من الكرملين، شعر الزائر أن الخيارات محدودة. إما سوريا الروسية والحل التدريجي، وإما سوريا الإيرانية والحرب التي لا تنتهي. هذا ما تفرضه الوقائع الميدانية والسياسية على المسرح السوري. نجح التدخل العسكري الروسي في تغيير المشهد السابق. انفجر الانتحاريون بالمعارضة المعتدلة وطموحاتها أكثر مما انفجروا بقوات النظام.
سمع الزائر من صاحب القرار تصوره للدور الروسي في المرحلة المقبلة. موسكو معنية بإنضاج حل مهما استلزم من الوقت، لكنها غير قادرة وغير راغبة في فرض حل. فهمَ الزائر أن موسكو تسعى إلى إيجاد حل استنادا إلى ثلاثة مسارات. الأول مكافحة الإرهاب، وهي أولوية بالنسبة إلى بلاد فلاديمير بوتين. المسار الثاني الموازي هو المفاوضات بين النظام والمعارضة على خطى جنيف وآستانة. المسار الثالث الذي لم ينطلق فعلياً بعد هو مسار العلاقات بين روسيا بوتين وأميركا دونالد ترمب والذي تحلم موسكو بأن يؤدي في النهاية إلى صفقة شاملة.
ترى موسكو أن الوقت سلاح ضروري لإنضاج الحل، وأن حرق المراحل لا يؤدي إلا إلى استمرار الحرب. ترد على من يطرح تنحية الرئيس بشار الأسد بالقول إن البديل غير متوافر حالياً. تأخذ في الاعتبار معارضة إيران القاطعة لإخراج الأسد من المعادلة. تلمح إلى أن الأسد يمكن أن يبقى حتى موعد الانتخابات الرئاسية في 2021، وأنه يمكن أن يخرج بعد الخسارة فيها. تلمح أحياناً إلى أن الأسد نفسه سمع بعد زيارته روسيا، إثر تدخلها العسكري لإنقاذ نظامه، أن لهذا التدخل ثمناً لا بد من دفعه في التوقيت المناسب.
أمام هذه الصورة وجدت الدول المعنية بالمأساة السورية نفسها. أميركا ترمب غير راغبة في تدخل واسع لقلب الطاولة. سوريا تقيم أصلا خارج مناطق نفوذها. ولا شيء في سوريا يغري أميركا بمخاطرات كبيرة من أجلها ثم تحمل مسؤولية إعادة إعمارها. هذا فضلا عن المجازفة بمواجهة خطرة مع روسيا.
في الحسابات الواقعية الباردة، تفضل هذه الدول رؤية سوريا الروسية على رؤية سوريا الإيرانية. الوجود العسكري الروسي لا يغير ملامح سوريا أو مناطق فيها. وجود البحرية الروسية في طرطوس لا يقلق الغرب ولا يقض مضاجع العرب. سوريا الروسية هي الخيار الأقل كلفة للخروج من المستنقع السوري.
تغيرت صورة الممثل الروسي في اللقاءات التي تعني الشرق الأوسط. إنها صورة مختلفة عما كانت عليه في أيام بوريس يلتسين وكذلك في أيام بوتين قبل تدخله العسكري في سوريا. هذا ما يلمسه الصحافي إذا رصد تحركات ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي والممثل الخاص لبوتين في الشرق الأوسط وأفريقيا، خلال مشاركته في القمة العربية في البحر الميت.
سألت بوغدانوف عما إذا كانت غالبية الدول تفضل حالياً قيام سوريا الروسية لتفادي سوريا الإيرانية، فأجاب: «هذه تعابير إعلامية لا نستخدمها نحن. الحل في سوريا يجب أن يؤدي إلى قيام سوريا السورية، بمعنى أن يحافظ على وحدتها وسيادتها وسلامة أراضيها في ظل دستور يتفق عليه السوريون».
قال بوغدانوف إن مصير البلد وقيادته يجب أن يكون في يد الشعب السوري. وأوضح أن الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية تدفع الأطراف المنخرطة فيها إلى البحث عن حلفاء من الخارج، لكن حين يحصل حل سياسي تفقد التدخلات العسكرية الخارجية مبرراتها ويصبح انسحاب من جاءوا في ظروف الانقسام بديهياً. وشدد على أن الحل السياسي هو الطريق إلى خروج القوى الخارجية من سوريا. ورأى أن هذا الحل يجب أن يتم استنادا إلى الشرعية الدولية وعملية جنيف والتفاهمات التي ظهرت في مجموعة دعم سوريا.
واضح أن الحل الروسي يتقدم. بقي مقعد سوريا شاغراً في القمة العربية، لكن الخطب شددت على الحل السياسي فيها من دون القول إن تنحي الأسد يعتبر شرطاً للحل، على الأقل في الوقت الحاضر. كان بوغدانوف يتابع الخطب وأغلب الظن أنه كان مرتاحاً.
غداة القمة جاءت إشارة أميركية معبرة ومن تركيا المنخرطة في النزاع السوري. أعلن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن وضع الأسد سيقرره الشعب السوري «على المدى البعيد». استكملت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي الإشارة، وقالت إن «أولوية الولايات المتحدة في سوريا لم تعد إزاحة الأسد». وبدا واضحاً أن إلحاق الهزيمة بالمنظمات الإرهابية بات يتقدم لدى كثيرين على موضوع إزاحة الأسد، وإن كان هناك شبه إجماع على استحالة تمرير حل يعيد سوريا إلى ما كانت عليه قبل انفجار الأحداث فيها.
ها هي الأزمة السورية تدخل المعبر الروسي بوصفه معبراً إلزامياً. القبول بسوريا الروسية طريقاً إلى سوريا السورية يحتاج إلى صفقة أميركية – روسية، ويحتاج أيضاً إلى تنازل إيران عن حلم التمسك بسوريا كممر آمن إلى لبنان ومياه المتوسط.