عمار زيادة
يعيش “جيب إدلب”، الذي يضمّ مناطق من حلب واللاذقية وحماة، حالة من الفوضى، خلقتها صراعات داخلية وخارجية مركبّة ومعقّدة، لحقت انهيار النظام السوري وخروجه من مركز المحافظة قبل سنتين.
هذه الفوضى هي حرفيًا ما قصده “أبو بكر ناجي” في كتابه “إدارة التوحش”، الذي غدا أقرب إلى دستورٍ للجماعات الجهادية، واعتمده تنظيم “الدولة الإسلامية” في كثيرٍ من سياساته.
يُعتقد أن الكاتب “ناجي” هو نفسه “أبو مصعب السوري”، المعتقل في سجون النظام السوري، والذي ألف كتبًا عدة في هذا الإطار، أو محمد خليل الحكايمة مسؤول الدعاية في تنظيم “القاعدة”، الذي قتل بغارة “درون” أمريكية في باكستان عام 2008. وفكرة الكتاب تقوم على أن النجاح في إدارة “مناطق التوحش” هو المعبر لدولة الإسلام المنتظرة.
ومن مهمات “إدارة التوحش” نشر الأمن الداخلي وتأمين منطقة “التوحش” من الأعداء، وتوفير الطعام والعلاج، وهو ما تعمل عليه “تحرير الشام”، باتفاق “المدن الخمس” في قطر، الذي يضمن استقرار مناطق حيوية وتجنيبها قصف الروس والنظام السوري، وأبرزها مركز محافظة إدلب، ويحيّد خطر بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين، المسمار الأخير للنظام السوري وإيران في “جيب إدلب”، ويسمح بدخول الطعام والدواء إلى المناطق المحاصرة.
وعلى صعيد الأمن الداخلي، أنشأ “جيش الفتح”، الذي تنضوي تحته “تحرير الشام” في مدينة إدلب، ما أسماها “قوات خاصة” لضبط الأمن بـ “حزم”، وسط حالةٍ من الفلتان تعاني منه المنطقة، وأعلنت “القوات” عن تشكيلها بعرض عسكري “مهيب”.
كما تعمل الهيئة على زيادة رقعة سيطرتها وتحييد خطر “الدولة الإسلامية”، التنظيم المنافس في استقطاب المقاتلين، مستفيدةً من الضغط الذي يتعرض له في معقليه الرئيسيين، الموصل والرقة، فحصّلت اتفاقًا ثمينًا وغير معلنٍ قضى بانسحاب التنظيم من لجاة درعا وبادية دمشق والقلمون الشرقي، ويتجهز للانسحاب من عقيربات شرق حماة، رغم أنه استمات في الدفاع عن هذه المناطق على مدار السنوات السابقة.
من مهمات “ناجي” أيضًا رفع المستوى الإيماني أثناء تدريب شباب منطقة “التوحش” على القتال، وبدا ذلك جليًا في إصدارٍ للهيئة بعنوان “أمجاد”، وهو يصوّر “قوات النخبة” بإمكانيات “هوليودية”، ترفع الحسّ القتالي، وتجذب الشباب المتخبطين في مشاريع غابت عنها النجاعة وأحالتها الصراعات الداخلية، والفكرية خاصة، إلى مجاميع مفتتة.
قبل هذه المهمات فإن أبرز نصائح “ناجي”، هي تحقيق النكاية وجرّ العدو، وعلى رأسه الولايات المتحدة، إلى “حرب استنزاف” في أراضي المسلمين، مع التركيز على العنف الشديد، الذي كلما زاد وحشية كلما كان أفضل.
لكنّ الولايات المتحدة، التي ترجمت “إدارة التوحش” ووزّعته على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة والمسؤولين في وزارة الدفاع، لم تنجر إلى “حرب الاستنزاف” في معركتها مع تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق، بل اعتمدت على قوات من المنطقة، مدفوعةً بصراعاتٍ قديمة أو مساعٍ للنفوذ، ودعمتها جوًا، لتحقيق مكاسب “بطيئة” تبقى أضمن من انتقال “معركة النكاية” إلى الضغط الشعبي الأمريكي، جراء الخسائر المتوقعة على الأرض.
وتفادت واشنطن بذلك معركةً مفتوحة النطاق، خاصةً مع حاضنةٍ محلّية تغذيها “المظلومية” وتجنح لدعم التنظيم في وجه المارد الأمريكي بسبب “الأخطاء” القاتلة في هذا النوع من المعارك.
استبقت الولايات المتحدة أيضًا تحرّك “تحرير الشام” إلى “النكاية”، باستهداف قياديي الهيئة بغارات “درون”، وآخرهم “أبو يحيى الحموي”، قاضي مدينة إدلب، أما أبرزهم فالقادم من إيران “أبو الخير المصري”، وهو الرجل الثاني في تنظيم “القاعدة”، خلف الظواهري.
وأوقفت واشنطن دعم الفصائل “المعتدلة” في المنطقة، خوفًا من وصوله إلى “تحرير الشام” التي هاجمت مقرات لتشكيلات من “الجيش الحر” واغتنمت أسلحة نوعية، وهو ما يصبّ في مصلحة “تحرير الشام” في جزئية “إقناع” المسلمين “المعتدلين” الذين كانوا يؤمنون بدعم الولايات المتحدة بأن هذه السياسة لا تجدي نفعًا، وفق مهمّات “أبو بكر ناجي” نفسه.
رغم أنها متأصلة في أدبيّاتها، إلا أن “تحرير الشام” تعي أن “حرب الاستنزاف” مع الغرب انتحارٌ مجانيٌ حاليًا، ولذا رفضت بيان مايكل راتني، مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا، الذي وصفها بـ “الإرهابية” وأنها واجهة لـ “جبهة النصرة”، شق القاعدة سابقًا في سوريا، وردّت عليه بأنها ليست امتدادًا لأي تنظيم وأن ما تفلعه واشنطن هو “التشويش” على محاولات الاندماج وإشعال فتيل الاقتتال بين فصائل الثورة.
وعليه، نقلت الهيئة “حرب الاستنزاف” إلى مناطق النظام السوري، لتحقيق النكاية في العدو الأقرب والذي يتفق مقاتلو المنطقة، على اختلاف انتماءاتهم، أنه عدوٌ صريح يجب قتاله، فنفّذت عملية فرع الأمن العسكري في حمص، ثم عملية الزوار العراقيين في باب صغير في دمشق، وبعدها معركة أحياء العاصمة الشرقية، فمعارك شمال حماة التي هدّدت مطارها العسكري.
لا يمكن قياس مدى نجاح “تحرير الشام” بهذه السياسة، وإمكانية تطويع “جيب إدلب” في ظلّ وجود فصائل تنافسها أيضًا وتحظى بدعمٍ محلي ورضا إقليمي، لكنّ المؤكّد أن النظام السوري، بقصفه البنى التحتية والمؤسسات المدنية ومخيمات المهجّرين، يعمّق “التوحش” ويرفع الحاجة لـ “إدارته”.