في خريف عام 2012 كانت فصائل المعارضة قد اقتربت إلى حد كبير من العاصمة دمشق، وكانت قد سيطرت نارياً على طريق مطارها الدولي، وكادت تحاصر المطار تماماً. النظام، الذي اعتمد في المواجهة على طيرانه ومروحياته، شارف على فقدان ثلث قوته الجوية، بينما أدت الانشقاقات الضخمة في صفوف قواته إلى تداعي قطعات كبيرة منها. ولو سارت الأمور بالوتيرة ذاتها فأغلب الظن أن معركة دمشق الكبرى كانت ستُحسم، ويسقط النظام عسكرياً، قبل أربع سنوات من الآن.
لم نكن أيامها نتوقع انتقالاً وردياً في سوريا، فالمرحلة التي ستلي سقوط النظام ستشهد صراعات، بعضها عنيف وقد يكون بعضها الآخر انتقامياً، لكن أسوأ التوقعات لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه الصراع السوري في ما بعد، وإلى ما وصل إليه الانقسام المجتمعي أيضاً. قد تكون ضرورية الإشارة إلى أن ميليشيات النظام نفسه لم تكن قد تبلورت وأصبحت قوة ضاربة، شبه مستقلة أو صاحبة قرار ذاتي أحياناً، وكذلك لم تكن الفصائل الإسلامية المتطرفة ذات وزن كبير قياساً إلى الفصائل الأخرى التي تعمل تحت تسمية “الجيش الحر”. بالأحرى كان الخيار بين الأسد والتطرف أطروحة إعلامية للنظام وحلفائه، ولم تكن قد أصبحت ذات امتداد خارجي بعد، ولم يكن حينها لتنظيم داعش حضور يُذكر.
اليوم يكاد لا يوجد تفاهم يخص سوريا باستثناء التفاهم على ضرب التطرف، ممثلاً بداعش وجبهة النصرة، ولا يخفى أن إدارة أوباما وإدارة ترامب “حتى الآن” بذلتا جهداً كبيراً من أجل توجيه بنادق كافة الفصائل التي تقاتل النظام ضد هذين التنظيمين، أي قبل وبعد أن ترث موسكو النهج ذاته بإلحاح أشد ظاهراً، وبمكر أوضح لجهة تصفية من يصنّفون في معسكر الاعتدال الإسلامي وما تبقى من فصائل المعارضة.
قبل أربع سنوات قضت المشيئة الأمريكية بتخفيض دعم فصائل الجيش الحر، وبالإبقاء على نظام بشار تحت ذريعة عدم وجود حل سوى الحل السياسي، وخلال هذه السنوات قُتل مئات آلاف السوريين كرمى لحل سياسي لم يأتِ، بل أتى بدلاً منه مزيد من الإرهاب والحرب “المغشوشة” عليه تحت لافتة الخوف من الإرهاب الذي سيقوى بعد سقوط النظام. في الواقع لا يمكن استبعاد فرضية بروز الإرهاب كمعضلة سورية فيما لو سقط النظام في ذلك التاريخ، المصيبة هي عدم المضي مع الفرضية حتى النهاية، وعدم النظر في واقعها وهوامشها المختلفة جداً في التاريخ نفسه.
سقوط النظام كان سيؤذن بفتح صفحة من الصراع السياسي في سوريا، ولهذه النقطة أهمية قصوى لأن الصراع السياسي، وانضواء المزيد من السوريين فيه، يعني تلقائياً السحب من رصيد من يختارون العنف وسيلة للتغيير. في الواقع لن يلجأ إلى استخدام السلاح، أو الاحتفاظ به، في هذه الحالة سوى أولئك الذين لهم موقف راسخ من العداء للديموقراطية والصراع السلمي، وهم لا يشكلون الأغلبية في المجتمع السوري أو أي مجتمع آخر، فالأغلبية تنزع دائماً إلى الوسطية والاستقرار والتسويات الملازمة لهما، أي إلى السياسة. سيكون لهذه الأغلبية بالطبع موقف مناهض للتطرف والعنف، والأهم أنها لن تكون أغلبية طائفية، لأن التمسك بالاعتدال والسلم عندما يُتاحان ليس صفة تختص بها أية طائفة أو شعب.
الحرب على الإرهاب، فيما لو سُمح بإسقاط النظام، كان مرجحاً غلبة الصبغة السورية عليها، وانضواء تحالف غير طائفي وغير قومي فيها. هذا مهم لا لدحض أحقية النظام الطائفي الحالي المزعومة بالحرب عليه، أو لأحقية طرف آخر مثل الميليشيات الكردية، إنه مهم أيضاً لدحض التصور المضاد الذي ينص على أحقية السنّة تحديداً بمحاربة “الإرهاب السني”، لأن ما يُستبعد في الحالتين هو وجود مشترك سوري له مصلحة في محاربة الإرهاب، وأيضاً تُستبعد قدرة السوريين بمختلف منابتهم على التحالف من أجل قضية تمس أمنهم ومستقبلهم المشتركين.
في الشق السوري من الحرب الحالية على الإرهاب نرى تسويقاً لدوافع كل طرف ضمن جمهوره الفئوي، ومن المؤكد أن دوافعه لا تلقى أكثر من الاستخفاف أو السخرية خارج ذلك الجمهور. حرب النظام على الإرهاب هي أصلاً الاسم الرمزي لحربه على أي سوري يرفض الاستبداد، ليكرس فوقها بمشاركة الميليشيات الشيعية كونها حرباً طائفية تمتد جذورها إلى بدء الخلافة الأموية. حرب الميليشيات الكردية على داعش، بسبب افتقارها إلى أسباب مذهبية، تبني مشروعيتها ضمن الوسط الكردي من اعتبار التنظيم ممثلاً للعروبة أولاً، ولو على حساب تجاهل بعثية نظام بشار الحليف، وتبنيها تالياً على المصلحة الكردية في الانضواء ضمن تحالف دولي يضم أمريكا وروسيا، وما بينهما على الشهية المفتوحة لالتهام مزيد من الأرض وإلحاقها بمناطق التواجد الكردي. لا مشكلة لأيّ من الطرفين مع التطرف أو مع داعش من منطلق أن التطرف بطبعه عدو للسياسة والديمقراطية، لأن أياً منهما لا يمكنه المزايدة على هذا الصعيد انطلاقاً من سلوك ديمقراطي إزاء جمهوره أولاً.
يلزم التذكير بأن إدارة أوباما حاولت إنشاء قوة مرتزقة من السوريين لقتال داعش، بشرط كتابة منتسبيها تعهداً بعدم قتال قوات بشار، لكن خطتها فشلت فشلاً ذريعاً. استرجاع هذا الحدث ضروري لفهم السياسة الخارجية التي لا تريد الربط بين الاستبداد والإرهاب، حيث يتعدى الربط هنا تلك العلاقات التي افتُضحت بين تنظيم الأسد وتنظيم داعش إلى أن منع الصراع السياسي الديموقراطي في العديد من التجارب المعروفة عالمياً أدى إلى تفاقم العنف أو الإرهاب، وتدلل تلك التجارب على أن هذه العلاقة السببية غير مشروطة بالإسلام تحديداً، وغير مشروطة دائماً بالارتكاز على أيديولوجيا دينية. تلك المحاولة الأميركية المشروطة الفاشلة كانت تعني أيضاً حرمان السوريين من حربهم، لا على تنظيم الأسد فحسب وإنما على تنظيم داعش أيضاً، لأنها تجعل الحرب على الأخير ضمن تصور الأميركي لا يلحظ مصالح السوريين، أو يضمن توافق المصلحتين.
شكلياً يمكن أن يُقال أن التخلص من داعش بأية وسيلة كانت منفعةٌ للسوريين، وأن أي بديل لداعش لن يكون على نفس المستوى من الانحطاط السياسي والحضاري. هذا القول الذي يُسوّق بكثرة يتجاهل عمداً سياقين متلازمين، حرمان السوريين من حقهم في التغيير الديموقراطي وحرمانهم من حربهم على أعداء حقهم هذا؛ الجمع بين الحرمانين يعني تالياً حرمانهم من الحق في أن يكونوا سوريين.