«ودعنا منذ عام، ولا أزال أذكر ابتسامته لي صباح الأربعاء قبل أن يغادر المنزل، كانت آخر مرة أراه فيها. لم يخطر ببالي حينها أن تلك الابتسامة ستكون الأخيرة»، يقول عبد الرحمن، الشاب الذي أمضى مع الشهيد محمد قريطم (أبو النور) أشهره الأخيرة قبل استشهاده، خلال حديثه لعنب بلدي.
عام مضى، وذكريات عبد الرحمن مع أبو النور لاتزال ترافقه، محطة أبو النور الأخيرة كانت في مهمة بادر لأدائها نيابة عن عبد الرحمن، فخرج صباح ذلك اليوم ولم يعد.
لا يتوقف عبد الرحمن عن مراجعة ما حصل في الأيام الأخيرة من حياة أبو النور:
“أتى صديق لي يطلب إيصال معونات غذائية لعائلة شهيد، فطلبت من أبو النور مساعدتي، فلم يتوانى كعادته. ذهبنا عصرًا إلى بيت الأستاذ أبو مصعب شربجي سوية، سألنا الأستاذ عن مكان إقامة العائلة، ومن منزله انطلقنا برفقة مروان شربجي، ابن أخيه، لنوصل المعونات، لكن القصف منعنا ونحن في منتصف الطريق، فعدنا كلٌ إلى حيث يقيم، واتفقنا أن نحاول في اليوم التالي”.
يتابع عبد الرحمن: “عدنا إلى منزلي، حيث تتوفر الكهرباء والاتصالات، شبه المعدومة في المدينة، وأمضينا اليومين التاليين هناك مع صديقنا أبو يامن (عضو المجلس المحلي حاليًا). في اليوم الذي سبق اختفاءه سهرنا معًا حتى الفجر، وغفا أبو النور قبلنا. لا أذكر الوقت تمامًا، ولكن أذكر كيف غطّاني جيدًا قبل أن يغادر، فابتسمت له، رد الابتسامة وغادر. استيقظت في وقت متأخر ظهر ذاك اليوم، الأربعاء، على أصوات القصف الشديد والاشتباكات العنيفة، وجدت أبو يامن صاحيًا ولم أجد أبو النور، سألته عنه فقال إنه غادر قبل أن يستيقظ هو، ولكنه ذكر شيئًا عن فطور سيحضره لنا. مضت ساعات ولم يعد أبو النور، بحثنا عنه في الأماكن التي اعتاد التردد عليها، سألنا عنه أصدقاءنا في المكتب الإعلامي، ولم نخبر غيرهم. كانت الاتصالات صعبة جدًا في المدينة، وكان غيابنا عن الإنترنت معتادًا، فلم يلحظ كثيرون اختفاءه”.
“شهدت المدينة تقدمًا لقوات النظام ذلك اليوم، فاضطررنا لمغادرة المنزل، إذ بات البقاء في خطِرًا، فتوجهنا إلى هناك على عجل ليلًا لنأخذ حواسيبنا. فتحت الباب وأملي أن أجد أبو النور في الداخل، كنت أحدث نفسي أنه بخير، لربما كان عند أحد الأصدقاء وعاد متعبًا، لا بد أنه نائم في الداخل الآن، ولكنه لم يكن… أخذت أغراضي، وأغراضه، وغادرت”.
“صباح الخميس توجه صديق لنا إلى منزل الأستاذ أبو مصعب، فوجد باب المنزل مفتوحًا بشكل غريب، وأبواب الغرف كلها مفتوحة، فيما بدا له وكأن أحدًا ما اقتحم المنزل، فغادر المكان مسرعًا؛ لم نتمكن من الوصول إلى مروان أو إلى الأستاذ، فكانت توقعاتنا أنّ قوات النظام تسللت ليلًا إلى المنطقة، وقامت باختطافهم. حاولنا أن نتذكر ما قاله أبو النور لنا قبل ذهابه، علنّا نجده”.
“ذهبنا مساء ذلك اليوم إلى شقته القريبة من خط المواجهة عند مشفى شرف، كنا قد غادرنا شقته قبل فترة وجيزة إثر اقتراب قوات الأمن من المنطقة، وأحكمنا إغلاق مداخلها لئلا يتمركز الأمن داخلها. حاولنا دخول البناء ولم نستطع، فبدأنا نضرب حجارة على البناء علّه يجيبنا إن كان في الداخل، وبعد عدة محاولات عدنا أدراجنا خائبين”.
«(قوم قوم.. لاقوه لأبو النور… مستشهد)، هكذا أيقظني الشهيد عدنان مراد صباح يوم الجمعة، (وجدناه في المقبرة)، كان يومًا كئيبًا وعصيبًا، استنفار تام وحزن عميق، كان صديقًا مشتركًا بين الجميع… وبكينا”.
“كثيرون ذهبوا إلى المقبرة حينها، تعرفنا على جثث الشهداء، الحاج أبو مصعب وأبو النور ومروان شربجي. أذكر تفاصيل ذلك اليوم، كيف صلينا عليهم، وكتبنا الشاهدات ثم دفناهم؛ شهدت المدينة قصفًا شديدًا صباح ذاك اليوم أثناء وجودنا في المقبرة، لكن أحدًا لم يغادر… كان أبو النور صديقًا للجميع”.
“بعد انتهاء الدفن انطلقنا إلى المنزل، حيث وجدهم الشهيد أبو عمر عديلة أثناء تمشيط المنطقة. هناك توضح لنا ما حصل. صاروخ يحمل غازًا سامًا أصاب المنزل الذي تواجدوا فيه، ورغم نجاتهم من الشظايا والدمار إلا أن الرائحة كانت كفيلة بسلبهم آخر أنفاسهم. وأثناء جولتنا في المنزل وجدنا كيس المعونات الإغاثية الذي ذهب أبو النور لإيصاله مع مروان، حينها فقط تذكرت أنني من كان عليه أن يذهب لإيصاله، لكن عدم معرفتي الوثيقة بالأستاذ أبو مصعب، الذي كان سيدلنا على عنوان العائلة، دفعني لطلب ذلك من أبو النور لأنه كان أكثر خبرة بالتعامل وعلى صلة وثيقة بالأستاذ”.
“كان مروان قد دعانا أكثر من مرة في السابق لتناول الفطور في منزله، كان مصرًا جدًا على أن يجمعنا عنده، ولكن الظروف لم تشأ لنا أن نجتمع، ولطالما أجلنا دعوته مرة تلو الأخرى، ويبدو أنه استغل قدوم أبو النور ليقدم له الفطور المؤجل. عندما دخلنا المنزل كانت مائدة الفطور لا تزال مكانها، يضيف عبد الرحمن بعد تنهيدة عميقة، كان اجتماعهم الأخير هناك، لكنه لم يكن (عن عبث) كما قد يظن البعض من صورة المائدة التي انتشرت، كان لقاؤهم الأخير لخدمة الآخرين، وهذا أمر عظيم فعلًا… أن تبقى على عهدك حتى آخر لحظة، لم يكن بقاؤهم داخل المدينة تفريطًا ولا صدفة”.
ونوّه عبد الرحمن إلى أثر الغاز السام الذي انتشر في المنطقة، واستمرت آثاره لما يزيد عن الشهر هناك. «أثناء جولتنا في المنزل كانت رائحة الغاز مزعجة جدًا، إضافة إلى أن لون سترة أبو النور كان مختلفًا تمامًا من تأثير الغاز، كذلك تأثر جهازه الخليوي، إذ توقفت بطاريته عن العمل، ورائحة الغاز بقيت عالقة فيه أشهرًا».
وعن دور أبو النور داخل داريا خلال الفترة الأخيرة يقول عبد الرحمن: “لا يمكن حصر أبو النور بعمل محدد، فرغم مهام التصوير والتوثيق التي كان يقوم بها لم يكن من أعضاء المكتب الاعلامي رسميًا. واستمر نشاطه بالتنسيق بين الجهات العاملة في المدينة ومع جهات خارج المدينة؛ في الفترة الأخيرة كان من أوائل المتطوعين لتوثيق عملية تفريغ المحلات التجارية التي تضررت جزئيًا وأصبحت معرضة للسرقة لنقل محتوياتها لمخازن أكثر أمنًا”. ويضيف باسمًا «أذكر كيف كان يحاول دفعي لتولي هذه المهمة، ولكني كنت أتهرب… كانت شغلة معتة».
ويتابع.. “كثيرًا ما اختلفت مع أبو النور فيما يخص الجيش الحر والسلمية، وكان معروفًا عنه التزامه السلمية رغم ما تعرض له من انتقادات أحيانًا، لكن ذلك لم يفرق بيننا حتى خلال أوقات الأزمات، خلال مجزرة داريا كنا معًا، وكذلك خلال بداية الحملة حتى استشهاده… كان يهتم بي، ويوصي الآخرين بالاهتمام بي أيضًا”.
محمد أنور قريطم، أبو النور، من أبرز شباب مدينة داريا وأحد مؤسسي جريدة عنب بلدي، وهو أيضًا من مؤسسي المجلس المحلي وعضو إدارة مكتب الحراك السلمي التابع له.
شارك في عدة أنشطة اجتماعية وثقافية وسياسية منذ مرحلة مبكرة في حياته، كان أبرزها مظاهرات عامي 2002 و 2003 في داريا، والحملات التوعوية آنذاك. وخلال الحراك الثوري في المدينة قدم جهدًا في مجالات إغاثية وإعلامية.
وإضافة إلى تنظيمه لأعمال الحراك السلمي في داريا، أثرى أبو النور المدينة بأفكار متنوعة، أبرزها حملة «ثورتنا ثورة أخلاق»، وحملات التنظيف، ونشر صور الشهداء، ومظاهرة الفزاعات.
غادر محمد في الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام الماضي (2012)، تاركًا طفلتين، أكبرهما ريم، التي لم تبلغ عامها الخامس بعد، ورثت عنه جماله، كما تقول أمها، وكذلك حنانه عناده، وتحكي دائمًا عنه لأختها الأصغر، يارا، التي لم تنعم سوى بضمة خاطفة من أبيها في أيامها الأولى.
«بابا حلو كتير، وكان يشتريلي حليب وأواعي حلوة.. كان يحملني ع كتافو كتير.. بابا بحب العطر كتير»، جزء من الذكريات التي تحملها ريم عن والدها، الذي ترسم له دومًا. ريم ترسم أيضًا طريقًا طويلة، «الطريق إلى الجنة» حسب وصفها، «بدنا نمشي عليه أنا وماما ويارا ونروح عند بابا».