تظهر ردود الفعل العربية على الخلاف الأردوغاني- الأوروبي الأخير أشبه بانقسامات مشجعي كرة القدم، وإذا لم يكن لهولندا مشجعون وأنصار فالانقسام هو بين محبي أردوغان وخصومه، من دون النظر جيداً إلى الواقع السياسي المستجد الذي يجعل أوروبا متشددة إزاء حليف قديم، ويجعل أردوغان متشدداً إزاء الاتحاد الذي انتظر عند بابه طويلاً.
يحاجّ البعض بأن أوروبا لا تتخذ موقفاً صارماً من أنظمة أخرى في المنطقة تفتقر إلى جزء ضئيل من الديموقراطية التركية، على علاتها والتراجعات التي قد تصيبها. ولعل في هذا المنطق «العادل» يكمن سوء فهم عميق للسياسات الأوروبية، مثلما يضمر مساواة للتجربة التركية مع أنظمة المنطقة مع الاحتفاظ ببعض الأفضلية للأولى. من وجهة نظر أوروبية، وغربية عموماً، الأمر مختلف تماماً، فتركيا عضو في حلف الناتو منذ 1952، وجيشها هو الرابع في الحلف من حيث العدد، أي أنها منضوية في شكل أساسي ضمن المنظومة الدفاعية الغربية بما يرتبه ذلك عليها من مسؤوليات إزاء أعضاء الحلف الآخرين.
في 1999 اعتُرف بتركيا كمرشح للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وكانت وقعت اتفاقية اتحاد جمركي مع الأوروبيين في 1995. رحلة الانضمام الذي لم يتم، والتي بدأت في 1987، تطلبت من تركيا الالتزام أو الاقتراب من المعايير الأوروبية في العديد من المجالات، ومنها ما يتعلق بحقوق الإنسان. ومن المعلوم أن التحسينات التي طرأت على حقوق الأكراد مثلاً كانت في جزء معتبر منها نتيجة الاقتراب من المعايير الحقوقية الأوروبية. هذا ينطبق على مجمل العملية السياسية التي خاضتها الحكومة التركية مع حزب العمال الكردستاني، وينطبق على الأخير وأنصاره أيضاً الذين راحوا يفكرون في أفضلية البقاء ضمن بلد سيكون أوروبياً على الانفصال عنه.
نحن نتحدث إذاً عن ثلاثة عقود من التجربة الأوروبية -التركية، وقبلها عن ستة عقود ونصف عقد من الاستراتيجية الدفاعية المشتركة. عرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد، نتيجة تخوفات من كونها الأكثر سكاناً أو الأكثر انخفاضاً في أجور العاملين، لا تغير من الواقع الجيوسياسي الذي يستلزم علاقة خاصة بين الطرفين. هذا ما يدركه أردوغان جيداً، والأمر لا يقتصر على مجرد ابتزاز الأوروبيين بموجات جديدة من اللاجئين السوريين، بل يتعلق أيضاً بالتغييرات على النظام التركي نفسه، وما يرافقها من تحولات في السياسة الخارجية تضر بالمصالح الأوروبية.
ما ينبغي تذكره أن أردوغان وحزبه لم يكن لهما أن يرسخا سيطرتهما على الحياة السياسية التركية، في مواجهة الجيش تحديداً، لولا المباركة والدعم الغربيان. لقد راهن الأوروبيون على إسلام معتدل يمثله حزب العدالة، كنموذج يُقدّم للحركات الإسلامية في المنطقة، وأيضاً للإسلام المتطرف الذي تعاني منه بعض دول أوروبا. هذا عامل إضافي في توتر العلاقة الحالية، بسبب المآخذ على أردوغان جراء تعاطيه مع الإسلاميين في الملف السوري تحديداً.
الملف الأخير لا يُختزل في موضوع الإسلاميين، فأردوغان يلعب على التفاهمات أو التناقضات الأميركية -الروسية، إدراكاً منه لاتفاق هذين القطبين على تهميش أوروبا، المتضرر الأكبر في موضوع اللاجئين، وأيضاً في الانعكاسات السلبية لما يسمى «الحرب على الإرهاب». هي عوامل يشتد ضغطها على الحكومات الأوروبية مع استغلالها من جانب اليمين الشعبوي المتطرف، إلى حد بات يهدد الاتحاد بالانهيار، وإذا كان الانهيار مصدر تشفٍّ لأردوغان الذي لم يدخله فهو قضية شديدة الحيوية لشعوب أوروبا واقتصاداتها.
يملك أردوغان ما يكفي من المعطيات ليدرك أنه في موقع مَن يضغط على أوروبا لا العكس، فتحالفه مع بوتين ومغازلته ترامب، بينما يتهم حكومات أوروبية معتدلة بالنازية، لا يمكن فهمه إلا على أرضية العداء لأوروبا والدعم غير المباشر لتيارات اليمين المتطرف الانعزالي فيها. القضية لا تتعلق بموسم انتخابي تركي ومواسم انتخابية أوروبية، وما يلحق بها في حسابات الطرفين، على رغم وجاهة هذه الظروف وحساسيتها الأوروبية الحالية خاصة. أبعد من ذلك، يقدّم أردوغان موضوعياً خدمة لقوى تسعى إلى انهيار الاتحاد الأوروبي، وأيضاً لتيارات فكرية يؤرقها مثال الاتحاد.
المستغرب هي إدانة دول مثل هولندا وألمانيا لمنعها حملات سياسية مبالغ فيها على أراضيها لمصلحة دولة أخرى، بينما هي في موسم انتخابي أيضاً، فهذه الإدانة لا تنطلق حقاً من حرص على النموذج الديموقراطي الأوروبي المهدَّد حالياً. على العكس يتم استغلال الحدث للطعن في الديموقراطية الغربية ككل، وكأن الديموقراطية صارت معولمة إلى حد يسمح لأردوغان نفسه القيام بأمر مماثل خارج دول الاتحاد. أو ربما، بمقياس العدالة السطحي ذاته، يجوز لأي ديكتاتور في المنطقة القيام بحملات ترويج في الغرب.
«غيرة» أوروبا على تركيا ورفضها التعديلات الدستورية المقترحة نابعة من تاريخ العلاقات المشتركة والشراكة، وهذا معمول به أولاً ضمن أوروبا، وهناك سابقة قديمة في فرض عقوبات على النمسا بسبب وصول اليمين المتطرف فيها إلى الحكم، وهناك سوابق قضائية في عقوبات أقرتها المحكمة الأوروبية العليا على دول في الاتحاد. هذه هي ضريبة الانضمام أو الاقتراب من الديموقراطية الأوروبية، الضريبة التي لا تدفعها طبعاً أنظمة بعيدة كلياً عن مفهوم الشراكة الواسع مع أوروبا. يصح وفق هذا القياس أيضاً فهم ما يُرى حزماً أوروبياً إزاء الانتهاكات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين وغياب ديناميكيته إزاء سفاح مثل بشار الأسد، فاتفاق الشراكة بين إسرائيل والاتحاد الموقع عام 1995 ينص في مادته الثانية على الاحترام المتبادل لحقوق الإنسان والمبادئ الديموقراطية.
ليست أوروبا جنة الديموقراطية والعدالة على الأرض، وفيها ما فيها من السياسي غير الأخلاقي، وهي أيضاً غير صورة أوروبا الموجودة في مخيالنا العائد إلى الحقبة الكولونيالية. لكن، كي نبقى ضمن ما هو سياسي، يجدر بنا أن نسأل قبل اتخاذ وضعية مشجع كرة القدم: ما الذي نجنيه من مساعدة أية جهة من اليمين المتطرف في حكم أوروبا؟ ما هو الأفضل لنا، تركيا أكثر ديموقراطية أم مركزية؟ ما الذي يفيد المنطقة أكثر، أردوغان معتدل بشراكة أوروبية أم سلطان بشراكة روسية؟
بالطبع، إدانة عنف البوليس الهولندي في قمع تجمع مؤيد لأردوغان مستحقة، على ألا يكون أصحابها مصفقين لأردوغان عندما يطالب أوروبا بالتعلم من ديموقراطيته.