محمد رشدي شربجي
بالرغم من أن أيام الأسى لا تنتسى كما يقول المثل الدارج، إلا أنه لا يذكر المرء من ذكريات الثورة إلا ذكريات السنة الأولى، هناك حيث كان “الأسى” في أقل مستوياته، حيث كان “الأسى” في أجمل حالاته بشكل أدق، حيث كان الحلم مدفوعًا بميدان تحرير مصر، وساحة تغيير صنعاء، ولؤلؤة المنامة، وبنغازي ليبيا. هناك حيث اعتصام ساحة الأمويين يداعب الخيال كل لحظة. كم كان الحلم عظيمًا!
أذكر من لحظات الثورة الأولى اعتصامًا قام به نخبة من شباب سوريا في ثاني أيام الثورة، أذكر يحيى شربجي وقد استطاع الهرب من رجال الأمن بعد أن ظفروا بهويته، ثم ظفروا به شخصيًا مع أخيه معن وغياث مطر وآخرين بعد ستة أشهر، أذكر نبيل شربجي يجره الأمن في ساحة المرجة بعد أن قرر الهتاف وسط عناصر الأمن، اختطفوه لأسبوعين حينها، ثم أخذوه في العام التالي واستشهد عندهم بعدها. كم كان الحلم عظيمًا!
كانت الثورة قريبة من النصر في أواخر 2012 باعتراف بشار الأسد نفسه، ثم بدأت موازين القوى تنقلب، انقلبت بتدخل عسكري إيراني- لبناني، تبعه آخر روسي، وقبله وبعده تدخل أمريكي “كابح” لحلفاء الثورة. ولكن أيضًا بانقسام الثوار وتشرذمهم وتصارعهم على جلد الدب قبل رؤيته حتى.
والحقيقة أن ما حدث في سوريا هو ذات ما حدث في دول الربيع العربي الأخرى، مرض النخب التي راحت تتصارع فيما بينها، فيما قوى النظام السابق تصل الليل بالنهار وهي تخطط لثورتها المضادة، وبدل تركيز الجهود على بناء نظام ديمقراطي يقطع الطريق أمام عودة النظام السابق، تحاربت النخب بالشعارات والأيديولوجيات مستعينة في هذه الحرب حتى بقوى الأنظمة المنهارة نفسها.
وقد تشكل سوريا حالة خاصة، بالرغم من التشابه مع حالات أخرى، فما بدأ كثورة سلمية حملت شعارات دولة مدنية لكل مواطنيها انتهى -بجهود نظام الأسد بشكل أساسي- إلى بؤرة صراع عالمي لا ينتهي. دخلت قوى غريبة على الثورة بعد أن قررت أن حرب نظام الأسد لا تكفي، علينا أن نضيف إليها أمريكا!
ثورتان طفيليتان -كما عبر باقتدار صحفي أوروبي- واحدة إسلامية وأخرى كردية سرقتا ثورة الشعب السوري، فتستطيع اليوم أن تجد دولة إسلامية وإمارة إسلامية وفيدرالية وكونفيدرالية ولكنك لن تجد قبر نبيل شربجي.
قد يكون ما حصل جيدًا بالرغم من ذلك، كنا نحتاج إلى هذه الصدمة لنكتشف أي خرابٍ يخبّئ هذا الوطن الذي كنا نتغنى بلحمته الوطنية، كان من الضروري ربما أن تحدث كارثة كهذه لنكتشف سخافة شعاراتنا المقدسة، خزعبلات الخلافة الإسلامية والأمة الواحدة من طنجا إلى جاكرتا.
ولكن هل يستحق كل هذا كل ما حصل؟ هل يستحق هذا نبيل ومحمد خير وأبو النور وعمر وغياث وآخرون لا تتسع صفحات لذكرهم؟ كم كان الحلم عظيمًا، بحجم خيبتنا تقريبًا!