عنب بلدي – سما نعناعة
حُرم أطفال مدينة جرابلس شمال حلب، لأكثر من ثلاث سنوات، من ممارسة حقّهم في تلقي التعليم النظامي، حين كانت المنطقة تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
ومع السيطرة على المنطقة من قبل “الجيش الحر”، مدعومًا بقوات تركية في إطار عملية “درع الفرات”، أواخر آب 2016، أخذت المياه تعود لمجاريها فيما يتعلق بالعمليّة التعليمية، لكنها اقتصرت على المرحلة الابتدائية حاليًا، بمنهاج سوري “معدّل” وإشراف تركي.
قبل حوالي خمسة أشهر بدأت عجلة التعليم بالدوران، وافتتحت مدراس في مركز المدينة وريفها لتستقبل آلاف الطلاب، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم التركية، وبالتنسيق مع المجلس المحلي ووزارة التعليم في الحكومة المؤقتة، إلى جانب مساهمات ودعم جمعيات ومنظمات تركية.
وباعتبارها نموذجًا لما يتوقّع أن تؤول إليه الأمور في شمال حلب، تحاول عنب بلدي تقديم صورة شاملة عن ماهية العملية التعليمية في جرابلس، من ناحية المنهاج، والمدارس المتاحة والمؤهلة، والمراحل التعليمية المتوفرة، فضلًا عن مصدر التمويل المالي الذي قد تحتاجه عملية تعليمية دقيقة وحرجة كهذه، ومدى تأثيره في استقلالية التعليم وتبعيّته.
العديد من الأسئلة تشغل بال ناشطين سوريين ومسؤولين في العملية التعليمية، حول المناهج المتبعة في المنطقة، والمشرفين عليها، وهل عملية التعليم عشوائية أم منظمة، وفيما إذا كانت الحكومة التركية تتدخل بالمناهج.
ويُنظر إلى التجربة في جرابلس بحذر، كونها قد تنسحب على بقية مدن الريف الشمالي لحلب، والذي تسعى أنقرة ليكون “منطقة آمنة”.
رمضان مصطفى، مدير مدرسة “صادق هنداوي”، إحدى مدارس مدينة جرابلس، أوضح لعنب بلدي أنّ منهاج الحكومة السورية المؤقتة يُتّبع حاليًا في المدارس، سواء كان في الريف أو مركز المدينة، مشيرًا إلى أنه منهاج النظام السوري ذاته إنما مع بعض التعديلات، كإزالة صور ومفاهيم تتعلق به، إلى جانب الحفاظ على المعلومات العلمية كما هي.
وأضاف المدير أن المنهاج وصلهم منذ فترة قصيرة، ليعتمد في مدراس المنطقة.
وهو ما أكدّه بدر كجك، مدير المكتب الإعلامي في جرابلس، إذ وصل منهاج الحكومة المؤقتة، منذ أيام قليلة، إلى مدرسة “أحمد سليم الملا” الموجودة أيضًا في المدينة.
وعمل كجك مؤخرًا على تقريرٍ مطوّل حول التعليم في المنطقة، قابل فيه مسؤولين في المدارس وأهالي الطلاب.
تعليم “حسب الحاجة“.. تركيا تتدخّل
وحتى مرحلة قريبة كان التعليم يعتمد بشكل مباشر على جهد المدرّس، فيشرف على تدريس الطلاب وفق احتياجاتهم، أو بحسب ما يعتقد أن هذه المعلومات تنقصهم.
وكان التقصير يجتاح المؤسسات التعليمية، وبدا جليًا من قبل الجهات المختصة والمشرفة على العملية التعليمة في جرابلس، زمن المجلس المحلي السابق، الذي تغير منذ أيام، بحسب بدر كجك.
وانتخب المجلس المحلي الجديد بحضور ممثلين عن الحكومة السورية المؤقتة ومندوبي فصائل المعارضة الرئيسية، مطلع آذار الجاري، بعدما توافقت فصائل “الجيش الحر” المكوّنة للمؤسسة الأمنية، الشهر الماضي، على حلّ المجلس المحلي السابق بسبب قرارٍ اتخذه بمنع المعلمات من لبس النقاب في المدارس.
وأثارت قضية “منع النقاب” ردود فعلٍ غاضبة، ودفعت ناشطين لتنظيم مظاهراتٍ ضدّ المجلس السابق، واتهامات بتبعيته لفرقة “السلطان مراد” في “الجيش الحر”.
وينظر إلى المجلس الجديد على أنه أول تجربة “كفاءات” في المنطقة، إذ يضمّ عشرين عضوًا، بينهم أطباء ومهندسون وحقوقيون، وجميعهم جامعيون.
وربما يعزى “التقصير” السابق إلى حداثة العملية التعليمية وافتقارها للخبرة الكافية، بعد مرحلة انقطاع دامت قرابة ثلاث سنوات، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستستمر على هذا النسق أم تتغير مع الأيام المقبلة؟
تركيا تتدخّل عبر وقف “المعارف“
وفي إطار التساؤلات حول تدخل تركيا المباشر في المناهج، نفى رمضان مصطفى، مدير مدرسة “صادق هنداوي” أي علاقة لها بالمنهاج، وفق ما يعتقد البعض، مشيرًا إلى أنّ إشرافها يقتصر على تقديم الدعم التقني والمادي، وربما الاستراتيجي أيضًا.
عنب بلدي توجّهت بالأسئلة إلى محمد أمين أصلان، ممثل وقف “المعارف” التركي في مدينة غازي عنتاب، وهو المسؤول عن المنطقة السورية، وقال إن الحكومة التركية تشرف على إدارة المرحلة التعليمية في مدينة جرابلس، بالتعاون مع الجهات المعنية في الولاية.
ووقف “المعارف” هو وقف تعليمي رسمي تابع للحكومة التركية، تأسس من قبل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لتقديم الدعم التقني والاستراتيجي للعملية التعليمية، وهو ليس وقف مساعدات، كما وصفه أصلان.
أربعة آلاف طالب في أربع مدارس
يبلغ عدد طلاب المدينة حوالي أربعة آلاف طالب من المرحلة الابتدائية، موزعين على أربع مدارس افتتحت بالتدريج منذ خمسة أشهر، وفق مدير مدرسة “صادق هنداوي”، الذي أكدّ وجود ألف طالب على الأقل في مدرسته، التي تقدّم إليها ثلاثة آلاف طالب وقت افتتاحها.
وقبل نحو ثلاثة أشهر افتتحت مدرسة “أحمد سليم الملا”، ثم مدرسة “تشرين”، وبعدها مدرسة “عدنان فوزي العسّيس” قبل شهر ونصف، بينما يوجد نحو 35 مدرسةً في ريف جرابلس.
وأشار مصطفى إلى أنه يوجد حوالي ألف طالب على الأقل في كل مدرسة، عدا مدرسة “العسّيس” التي تضم 450 طالبًا تقريبًا. لكن الأرقام تبقى غير دقيقة، خاصةً فيما يتعلق بالريف، وذلك في ظل غياب جهة رسمية لإحصائها.
ولا إحصائيات رسمية عن عدد المواطنين الذين يسكنون المنطقة حاليًا، إلا أن رئيسة بلدية غازي عنتاب، فاطمة شاهين، قدّرت، في تشرين الثاني 2016، عدد السوريين العائدين إلى جرابلس بعد “تحريرها” بـ 30 ألفًا.
ماذا عن المخيمات؟
حاولت عنب بلدي الحصول على معلومات حول طلاب المخيمات الموجودة في جرابلس ومحيطها، بعد حركة نزوحٍ واسعةٍ إلى المنطقة التي أصبحت “آمنة” نسبيًا من القصف.
رمضان مصطفى، مدير مدرسة “هنداوي”، رافق وفدًا تعليميًا من وزارة التربية التركية قدم من غازي عنتاب لزيارة مدارس المخيمات في جرابلس، وأبرزها مدرسة “تشرين”، وطلب الوفد إرسال هيئات خاصة تجول على الأهالي، بهدف توعيتهم لضرورة تسجيل أبنائهم، مؤكدًا التجاوب من قبلهم.
“غموض” حول مصير الإعداديّات والثانويات
وخلال إعداد التحقيق لاحظت عنب بلدي غياب المدارس الإعدادية والثانوية عن المدينة، إذ تقتصر على تعليم طلاب المرحلة الابتدائية فقط، رغم وجود طلاب من كلا المرحلتين بحاجة لمدارس ترعاهم، وفق تصريح أطراف تعليمية سورية، وجهات مسؤولة تركية.
وأوضح رمضان مصطفى أن المرحلة التعليمية تقتصر حاليًا على المرحلة الابتدائية فقط، مؤكدًا أنهم، كجهات تعليمية، سألوا الوفود التركية المسؤولة، فكان الردّ مختصرًا بأن البحث في أمرها سيكون لاحقًا.
كما أشار المدير إلى أن “غموضًا” يلفّ المسألة، مضيفًا أن النقص في عدد الأبنية المتاحة لتأمين التعليم للمراحل الإعدادية والثانوية، قد يكون السبب الرئيسي.
بدل المدرسة.. مقرّ عسكري ومشفى
وأكّد مدير المكتب الإعلامي، بدر الكجك، عدم وجود مدارس إعدادية أو ثانوية، منوهًا أنه كان يوجد مبنيان مخصصّان لتعليم هاتين المرحلتين، تحول أحدهما إلى مشفى، فيما يستخدم الآخر كمقر لأحد فصائل “الجيش الحر”.
وقال الكجك إن مدير التربية في المجلس المحلي السابق، أخبره برفض الفصيل مغادرة المبنى، رغم مطالبتهم بذلك مرات عدة.
أيلول المرتقب
من جهته، أكّد محمد أمين أصلان، المسؤول التعليمي من وقف “المعارف” التركي، أنّ الحرب “الطاحنة” في سوريا، لم تبقِ على أبنية صالحة للتعليم، ودمرت البنى التحتية في المنطقة، لافتًا إلى أنّ التركيز حاليًا يقتصر على المرحلة الابتدائية، التي تعد الأهم.
وتابع المسؤول أنّ تركيا تدرس وتعمل على افتتاح جميع المدراس اللازمة شمال سوريا، في إطار عملية “درع الفرات”، سواء كان في جرابلس، أو الباب أو بقية المناطق المعنية، وذلك بحلول العام الدراسي الجديد في شهر أيلول.
مدرّسون مؤهلون.. أم بـ “الواسطة“
تحدثت مصادر محلية من الأهالي في جرابلس أن المدينة تفتقر إلى المدرّسين المختصين والمؤهلين، لتولّي عملية التدريس، وهم يخشون على تعليم أبنائهم، لا سيما بعد انقطاع طويل.
وهنا توجّهت عنب بلدي بالسؤال إلى المدير رمضان مصطفى، الذي أشار إلى تقدم نحو 1200 مدرّس للتوظيف مع افتتاح المدراس، جلّهم من الجامعيين بين من تخرج من الجامعة أو بقي تخرجه عالقًا، بسبب مطاردته من قبل النظام السوري، أو نزوحه من مناطقه بسبب الحرب.
وأكّد تعيين ما لا يقل عن نصف المتقدمين، وخاصة الذين يملكون خبرة تعليمية مسبقة، موضحًا أنه يوجد في كل مدرسة ما بين 15 إلى 20 مدرّسًا، أمّا في الريف فتتراوح أعدادهم ما بين ثلاثة إلى خمسة في كل مدرسة.
لكنّ مدير المكتب الإعلامي، الكجك، احتجّ على تعيين المدرسين، معتبرًا أنّ معظمهم غير مؤهلين، ولم يكملوا تعليمهم الثانوي، وقد عيّنوا وفق مبدأ “الواسطة” السائد في المنطقة، بحسب تعبيره.
ويأمل الكجك تغيّر الأمر برمّته مع المجلس المحلي الجديد الذي انتخب من قبل أهالي المدينة، وسيتولى مسؤولية الإشراف على العمليّة التعليمية.
هل يؤثر التمويل على المناهج؟
تحتاج عمليةٌ بهذه الضخامة إلى دولة لتموّلها وترعاها، لا سيما مع انعدام البنى التحتية في سوريا، وربما يكون من البديهي أن تركيا التي بدأت عملية “درع الفرات”، هي المشرف والراعي الأساسي للمرحلة التعليمية في الوقت الراهن، ولكن كيف؟
أجمعت المصادر التي حاورتها عنب بلدي أنّ تركيا، بإشراف ولاية غازي عنتاب، وبالتنسيق مع مديرية التربية فيها ووزارة التربية في الحكومة المؤقتة، إلى جانب مديرية التربية في المجلس المحلي، تتولى العملية التعليمية في مدينة جرابلس حاليًا، وبقية مناطق الشمال السوري لاحقًا.
ويعدّ وقف “المعارف” التركي، المنسق الرئيسي بين الجانبين لهذه العملية على الأراضي السورية، وبالتعاون مع الجهات الرسمية التركية.
تمويل عيني ومادي
وقال محمد أمين أصلان، مسؤول الوقف في سوريا، إنّ وقفه يسعى جاهدًا لحصول أبناء سوريا على جميع احتياجاتهم لتلبية متطلبات المرحلة، مؤكدًا أنها “ليست مساعدات، وإنما واجب إنساني، وأمر تقتضيه حقوق الجيرة”، بحسب وصفه.
والدعم المالي الذي تقدمه تركيا، يكون على شكل عيني، لتبية احتياجات الطلاب والمدراس، من القرطاسية، وكتب ودفاتر، وأقلام وغيرها، إلى جانب الدعم التقني وصيانة المدراس وتأمين المستلزمات والتجهيزات اللازمة لها.
وبالإضافة إلى الدعم العيني، أوضح أصلان أنّ الوقف يقدم معاشات شهرية للمعلمين، وذلك بدءًا من اليوم الأول لافتتاح المدارس في المدينة، أي منذ خمسة أشهر.
وأكدّ كل من مدير مدرسة “صادق هنداوي” أنّ وقف “المعارف” هو من يتولى رعاية العملية التعليمية في جرابلس من الناحية المالية تحديدًا.
ونوه مصطفى إلى أن الدعم المالي الذي يقدّمه الوقف، يعد بمثابة “منحة” شهرية، غير ملزمة، فهم غير مرتبطين مع المعلمين بموجب عقود رسمية، على حد قوله.
ومن ناحية أخرى تحدث الكجك عن جانب مختلف، فوفق إفادات المعلمين التي حصل عليها، وجد أنّهم تلقوا معاشات ثلاثة أشهر فقط، موضحًا أن المبلغ كان حوالي ألف ليرة تركية للشهر الأول، و500 ليرة في الشهرين الآخرين، وأنهم لم يستلموا “فلسًا” في الآونة الأخيرة.
الوقف يسلّم الرواتب باليد
عنب بلدي حاولت الاستفسار حول صحة الأمر، وعلمت من مصدر داخل وقف “المعارف”، رفض الإفصاح عن اسمه، أنّ دعم الرواتب يقدم شهريًا ومنذ اليوم الأول، وبالتعاون مع المجلس المحلي في المدينة.
وأكدّ أصلان عدم صحة الادعاء، مشيرًا أنه يقدم الرواتب شهريًا بيده، ويحصل على توقيع كل مدرس على حدة، وطلب من عنب بلدي أن تعطيه اسم المدرس الذي لم يتلقّ راتبه، كي يكشف عن توقيعه بهدف التأكيد.
وعلمت عنب بلدي من مصادرها أنّ منظمات أخرى تسهم بالعملية التعليمية، مثل “IHH” للمساعدات الإنسانية و”أليكدار”، ولا تقتصران على الدعم التعليمي، بل تقدمان مساعدات عينية للطلاب والمدارس، وتنظمان نشاطات تفاعلية خاصة.
وفي نهاية حديثه، أشار المدير رمضان مصطفى إلى أنهم يدرسون مع الوفود التركية، إمكانية تشكيل “مجمع تعليمي”، مخصص لإدارة العملية التعليمية، والإشراف على احتياجات المدارس، ليكون بمثابة صلة الوصل المباشرة مع المجلس المحلي، وتتقدم إليه المدارس بقائمة احتياجتها وفق الأصول.
شهدت منطقة شمال حلب، منذ انطلاق عملية “درع الفرات”، محاولاتٍ لإعادة النشاط المدني، مع تأهيل بعض المدارس والبلديات والمشافي، وعودة القضاء والشرطة الحرة، وأصبحت تجربةً يعوّل على نجاح مؤسساتها باعتبارها دليلًا على قدرة المناطق “المحررة” من قبل “الجيش الحر” على النهوض ذاتيًا، في حال توقّف استهدافها من قبل النظام السوري.