إبراهيم العلوش
فتحت الثورة آفاق الحرية أمام الصحفي والكاتب، وصار بناء إعلام وطني وحر أملًا قريبًا، بعدما كان إعلام المخابرات بمثابة مقبرة للحقيقة، ووأد للنقاشات المجتمعية التي تحولت أخيرًا إلى احتراب دموي، بعد استحالة النقاش الإعلامي والفكري والقانوني في البلاد لنصف قرن من حكم المخابرات.
ظل الشعب السوري مرابطًا على أبواب الإذاعات والتلفزيونات عقودًا طويلة، علّه يحصل على خبر عن نظام الحكم، عن المعتقلات، عن التصحيح والتطوير والتحديث الخرافي، ولكن دولة حافظ الأسد كانت صماء ومحكمة الإغلاق، إلى درجة أن المسؤولين أنفسهم لا يعرفون ماذا يجري في كواليس الحكم، ناهيك أن وزراء كثر عُيّنوا وأنّهوا خدماتهم ولم يروا شبح حافظ الأسد المرابط في مكان ما، من متاهات القصر الجمهوري المعزول عن العالم.
وجاءت ثورة البث الفضائي فالتصق مئات ألوف الناس على مقاعدهم أمام قناة الجزيرة والبي بي سي والعربية وغيرها، ساعات طويلة من كل يوم، ولم يحصلوا إلا على خطابات بشار الأسد البلهاء التي تتحدث عن سيارة قديمة وسيارة جديدة.. ولو جعلنا السيارة القديمة تسبق السيارة الجديدة… وما إلى ذلك من خبث مغمس بالغباء، وبالوحشية التي كشّرت عن أنيابها أخيرًا، مع اندلاع الثورة السورية في منتصف آذار عام 2011، وذلك بعد حوالي ثلاثين سنة من مذابح الثمانينيات التي ارتكبها الأب مع نفس الطواقم الطائفية مضافًا إليها تلامذتهم من الشبيحة.
ومع اندلاع الثورة حمل الشبّان جوّالاتهم، وصاروا يرصدون أي حدث مهما كان صغيرًا، وكان المصورون في بعض الأحياء أكثر من المتظاهرين، حتى هبت الثورة بشكل واسع ملأ آفاق البلاد غضبًا، وحسمت أمور المترددين، وفرزت الناس مع الحرية أو مع التعذيب والقتل، ووقع أنصار القتل والتشبيح في خسارة أخلاقية ووطنية لن ينجوا أبدًا من آثارها، مهما تزينوا بعطورات الممانعة الطائفية، وأكاذيب مقارعة الإمبريالية والبداوة العربية، وما إلى ذلك من كلام ممجوج لا يشير إلا إلى الكراهية والانحياز إلى القتل.
احتل الإعلاميون السوريون الجدد الأقنية الفضائية العربية والعالمية، وصفحات الإنترنت بكل أشكالها، وتزعزع عصر الإعلام السوري الموؤود في جرائد النظام تشرين والثورة والبعث، وفي الأقنية الفضائية الرسمية وشبه الرسمية التي تتخلع أطرافها وهي ماتزال تثني على حكمة القائد وابن القائد وتشبيح أتباع القائد. لقد أنهت الثورة إعلام النظام القائم على التلاعب بالكلام والعبارات، إذ كانت خطاباته عبارة عن ستائر سوداء فوق الحقيقة، وفوق ما يجري في أقبية النظام وغرف عملياته التي تعتبر الشعب السوري هو العدو الأول في عقيدة الجيش وأجهزة مخابراته التي شاركت بكل هذا الدمار، وبكل هذا التهجير والتعذيب والقتل.
بدأ تبلور إعلام الثورة من إعلام هواة ومراسلي الشارع العابرين، إلى مؤسسات وصحف ومحطات فضائية، بالإضافة الى المشاركة مع معظم المواقع الإعلامية العالمية، والتدرب فيها على إخراج إعلام جديد يتحدى إعلام الممانعة الطائفي، وإعلام الاحتلال الروسي المروج لنصيحة التعذيب والقتل والاحتلال، أفضل من الدمار والتهجير.
لقد كان الإعلام اللبناني من أهم منجزات لبنان، ورغم الحروب الأهلية، ورغم تدخل جيش الأسد، فإن الإعلام اللبناني، ومن بعده دور النشر اللبنانية كانت منجزات كبيرة رسختها روح الحرية في لبنان، وجذبت إليها العالم العربي، وتم استثمار مئات الملايين من الدولارات في هذا الجانب الحيوي الذي تفتقد إليه البلدان العربية، ويسعى الإعلام السوري الجديد لمنافسة الإعلام اللبناني والخليجي، وستكون دور النشر السورية الجديدة أكثر جرأة وحرية من دكاكين النشر التي رخّصها النظام.
وكما كانت القبعات البيضاء منجزًا أخلاقيًا ورمزيًا مهمًا، على مستوى العالم، جعل معسكرات التشبيح تستشيط غضبًا من مكانته المحترمة، التي تم تتويجها بجائزة الأوسكار العالمية، فإن الاعلام السوري الجديد يقض مضجع المحتلين الروس والإيرانيين، ناهيك عن أن إعلام معسكر المؤيدين صار يخضع أيضًا لأمراء الحرب والتعفيش، واضطر لإحناء رقابه أكثر فأكثر أمام تعدد رؤوس النظام، الذي محا حتى بقايا المسموح به في إعلامه الخشبي القديم.
إعلام الثورة المتنوع والمتعدد، لن يضحي بعد اليوم بالسوري العادي الذي يفني عمره أمام الإذاعات والمحطات العالمية، من أجل أن يسمع إشاعة، أو طرف خبر عن الدولة والنظام وأجهزته، وسيرسخ الإعلام الجديد كما يحاول اليوم، مؤسسات أكبر، وأكثر حرفية، وأكثر قدرة على فرض أخبارها وتحاليلها على الصفحات العالمية وعلى الرأي العام، وسيجعل إعلام الحياة السورية منوعًا وعميقًا وليس كما كان عبر أكثر من نصف قرن، مقتصرًا على أخبار حافظ الأسد وبشار الأسد والزعبي والكسم ومصطفى طلاس والنمر والمستشارية الإيرانية.
سوريا تتغير رغم الثمن الباهظ الذي تدفعه، ولن ترجع مقبرة إعلامية، وقبوًا سريًا بعد اليوم، والإعلام السوري الجديد ذاق طعم الحرية مع الشعب السوري، ولن يقبل بسهولة النظرة الواحدة سواء كانت دينية، أو سياسية، أو عسكرية، أو شعبوية، لقد انفتحت سوريا على العالم، ولم تعد أخبارها وأخبار شعبها أسرارًا مقدسة مكنونة في أقبية المخابرات، وضائعة في خطابات هلامية قضى حافظ الأسد وابنه نصف قرن في تصنيعها على شكل متاهات إعلامية ولّى زمانها، وانكشفت عوراتها السياسية والأخلاقية.
الكاتب والإعلامي السوري اليوم أكثر حرية، وأكثر قدرة على التحدي، ومنصات الرأي أمامه متعددة وواسعة ومنفتحة على العالم، ورغم كل التحديات، فإنه قادر على قول كلمته وتمريرها بين الجهات الراعية والداعمة المتضاربة، فلا توجد حرية مطلقة، ولا يوجد إعلام بلا ضغوط، ولكن من المؤكد أن الثورة السورية دفنت إعلام المخابرات وإلى الأبد!