رمزية الأب في “الموت عمل شاق” للروائي خالد خليفة
هيڤا نبي
اعتقدت دائمًا بعدم جدوى رواية البؤس أو قراءته، يكفينا عيشه. لهذا بدأت برواية “الموت عمل شاق” وأنا على استعداد لتلقي تأكيد إضافي على ما أفكر فيه، خاصة أن المحنة السورية هي محنتي والرواية لن تقدم لي إلا تلاوة المحنة من جديد.
لم تفاجئني قراءة الرواية حتى قرابة نصفها، الرواية هي سرد وَفي للواقع كأن الكاتب يلقي بصنارته في نهر البؤس السوري ليصطاد سيرة عائلة (لا على التعيين) ويسردها بصبر كبير. سيرة عائلة مفككة تحاول تنفيذ وصية الأب بنقل جثمانه من دمشق إلى قريته العنابية، البعيدة في ريف حلب، ومن خلال تنفيذ الوصية تعيش العائلة وقائع حقيقية وأُخرى عجائبية تحيلهم إلى أنفسهم وإلى محنة بلادهم المنكوبة. رحلة الأبناء لدفن الجثة هي إعادة لرحلة الأب التي مضى عليها أربعون عامًا. فقد هجر الأب العنابية متمردًا آنذاك ومتوجها نحو دمشق “بإرادته بحثا عن ذاته” 135، وها هو الآن يقود أبناءه في رحلة معاكسة باتجاه قريته هذه المرة ليكتشفوا هم ذواتهم.
تبدأ الرواية والمعضلة الأساسية بوصية الأب، يموت الأب ويترك خَيار تنفيذ وصيته للأحياء. ماذا يفعل هؤلاء الأحياء بحريتهم؟ ماذا سيتصرفون إزاء وصية الميت؟ ما الذي يدفعهم لتلك المغامرة المجنونة (قطع مسافات طويلة في طرق محفوفة بالمخاطر المتوقعة واللامتوقعة)؟ مادورهم في تلك الوصية التي يفقدون ايمانهم بها لأسباب كثيرة؟
أجوبة كثيرة لأسئلة كثيرة يطرحها الكاتب. لا يُجاب عنها جميعها الجواب الذي قد يرغب القارئ بسماعه، لكنه الواقع الذي لا مناص منه.
الأب هو الحقيقة الكبرى والرمز الأكبر في النص. كلما قلبت صفحات الرواية تتكاثف دلالات صورة الأب ودلالات جثمانه. فلا يمكن في الحقيقة حصر رمزية الأب المتوفى ولا الأب الحي: فهو الوهم الذي يود الأبناء من خلاله إيهام أنفسهم بضرورة تمسكهم بجذورهم الواحدة، هو رمز الجيل، رمزالثورة بوجهها السلمي، رمز المثالية في الثورة، رمز التغيير الذي يود فرض نفسه رغمًا عن الجميع، رمز المتبقي من الإيمان بالعدل، كذلك رمز تفسخ مفهوم العدل بذاته. يمضي الأب ببراءته وأوهامه الجميلة ويترك ابنه بلبل ليواجه الواقع، في كل خطوة يسير بلبل يكتشف أوهام الأب، لكنه لا يحمل عداء له كما يفعل حسين، الابن الضال، بل يشفق عليه، ويشفق على آماله الباهتة.
ما شدني في محاولة فهم دلالات الرواية إشارة الكاتب خالد خليفة في إحدى مقابلاته، التي يؤكد فيها على كلام مستضيفه باعتبار رحلة دفن جثة الأب دلالة على الرحلة الوداعية لسوريا القديمة. فيقول الكاتب عنها إنها: “رحلة وداعية لسوريا القديمة بكل رموزها القومية والوطنية والسياسية والاجتماعية، برموز الحزب الحاكم وتاريخه عبر خمسين عامًا الذي طبع البلاد بطابعه، كما هي رحلة وداعية لسوريا القمع المتواصل الذي لم يتوقف، بهذا المعنى من الممكن قراءة دلالات الرواية”.
أستغرب كيف يمكن في هذه الدلالة تناسي، أو بالأحرى، قلب رمزية الأب الحي والأب المتوفى. أستغرب تجاهل كون الأب هو الشخص الوحيد في العائلة المعنية في الرواية، بل في الرواية كاملة، الذي أهتم بالثورة وأكل وشرب من زادها وعاش مع أبنائها وآمن بالتغيير القادم وآمن بأبناء الثورة، رغمًا عن المنطق ورغمًا عن الحصار والجوع، والذي رفض التخلي عن المنكوبين ومقابر الشهداء. كيف يمكن لتلك الشخصية، رغم بعض طبائعها القديمة، أن تمثل شيئًا من وداعية سوريا القديمة؟ شيئًا من العالم القديم؟
إضافة إلى كون الأب الحي لم يمثل في أية مرحلة من مراحل حياته الدور التقليدي للآباء، إلا من نواح قليلة، فهو يؤمن بالشباب ويجدد شبابه ويخرجه من تحت حطام الماضي، كما أنه يمثل دور المتمرد الذي يرفض اعتبار الفتاة عارًا يجب التخلص منها، بل يدافع عنها (عن أخته ليلى المنتحرة حرقًا)، ويطالب بأن يدفن في قبرها دلالة عن حبه لها وعقابًا لذاته التي سكتت يومًا عن الظلم الذي اُلحق بها.
ألا يمكن إذا قلب الافتراضية هذه تمامًا وقراءة دور الأب على أنه رمز للثورة التي أَفَلت وتركت لأبناءها عناء نقل جثمانها المتفسخ على مدى الرواية؟
تتكشف رمزية الأب المتوفي مع ظهور صعوبات نقل الجثة التي تتفاقم مع المعوقات الخارجية (الحواجز والحرب خارج الميكروباص)، والمعوقات الداخلية (خلاف الإخوة داخل الميكروباص وابتعادهم العميق عن بعضهم البعض)، ليتأكد تحولها النهائي مع تعامل الأبناء لها على أنها حمل يجب التخلص. التسليم بهذه الرمزية الصادمة لأبناء الثورة لن تغير الكثير مما يحدث، لكنها على العكس ستوضح الكثير.
إذا انتقلنا إلى انطباع الأبناء حول تلك المهمة نجد أن نقل الجثة يبدو في البداية عملًا بطوليًا (تمامًا كالثورة)، يتسارع الأبناء بحماسة شديدة إلى تنفيذها (حتى بالنسبة لمن لا يملك شخصية مؤثرة كبلبل وبالنسبة للولد الضال حسين). مع صعوبة التنقل عبر الطرقات المحفوفة بالمخاطر في أرض لا يكاد أبناءها يتعرفون عليها لشدة انقساماتها وتغير ولاءات حاكميها، تتحول المهمة لمسؤولية كبيرة ومرعبة.
وفي النهاية مع استحالة الاستمرار وظهور العداء والاقتتال بين الإخوة، تتحول الجثة لعبء يتوجب التخلص منه، وعند ذاك تخطر للأبناء كل الافكار اليائسة المندرجة بين العدائية واللامبالاة، (كإلقاء الجثة إلى الكلاب، دفنها في أي قرية غريبة، ترك الغرباء يتصرفون بها…). نقرأ في الصفحة 120ما يلي: “الوقت الطويل الذي قضوه قرب الجثة كان متوترًا، في الساعات الأولى كانوا متفائلين، وجدوا هدفًا واحدًا يوحدهم للدفاع عنه، بعد الليلة الأولى أصبح الحفاظ على ذاتهم هدفًا لا يمكن تجاهله، والجثة لم تكن أكثر من ذريعة، في قرارة أنفسهم، فكر الثلاثة بأنهم لن يضحوا من أجل أحد، الحفاظ على حياتهم رغم بؤسها كان هدفًا يضمره الجميع”.
كلما تعثر تنفيذ وصية الأب كلما ازداد وضوح رمزية الثورة في جثته. الثورة هي جثة وليس على أبناءها إلا حملها، كيفما اتفق، إلى حيث يدفنونها في المكان الذي تختاره هي. سيصيبهم اليأس والخوف، سيفكر أبناءها برميها إلى الهاوية (حين يسحب حسين الجثة ليلقيها خارج الميكروباص)، سيظهر من يدافع عنها ويعلن أنه سيتمم طريقه ويحملها على ظهره رغم معرفته أنه لن يتمكن من التقدم خطوة واحدة بذلك الحمل الثقيل، (بلبل حين يتشاجر مع حسين ويقرر نقل أبيه بمفرده إلى قريته). لكن دفاعًا من هذا النوع سيكون دفاعًا عاطفيًا وغير مجدٍ، (فبلبل شخص انطوائي، عديم الفائدة والتأثير، عاجز حتى عن اتخاذ القرارت المتعلقة بمصيره الشخصي)، سيكون هناك من يصمت ويكتفي بالبكاء عليها (بكاء فاطمة على الجثة) أو الإصابة بالخرس لما تجره تلك الثورة (الجثة) على الأحياء من أبنائها (حين تصاب فاطمة بالخرس خوفا على نفسها وعلى بلبل من التنظيم).
لن تتوقف التناقضات إلى هذا الحد، فذات الأشخاص سيتناوبون أدوار بعضهم البعض، والسبب وصولهم للدرك الأسفل من اليأس: بلبل الذي حمل وصية أبيه كراية وسار بها بلا تفكير، ها هو ذا يود التخلي نهائيًا عنه، لا يفعلها بدافع الخوف أو التهرب، ولكن بدافع التعب، فنقرأ في الصفحة 121: “بقيت جثة الأب وحيدة، فكر بلبل، إذا وصلت الكلاب إليها فستنهشها وهو لن يحرك ساكنًا، سيدّعي أن ما حدث دون علمه، وأن الحفاظ عليها ليس مسؤوليته وحده، هما أيضًا إبناه ومن واجبهما حراسته”. بدافع العجز والحيرة سيمثل بلبل دور فاطمة أيضًا وسيكتفي بالبكاء بينما يلكمه أخوه حسين ويحاول إخراج الجثة من الميكروباص.
حسين الممتلئ بالتمرد والقوة سييأس أيضًا من الحِمل الثقيل، دون أن يتمكن من التخلص منها أو اتخاذ قرار حر تجاهها، كدفنها مثلًا في أي قبر على الطريق، ستتحول قوته إلى حيرة، فيتسائل كأي أحد من أبناء الثورة: “وبعدين؟” 115
سيتوقف أملهم في حساب الوقت اللازم للوصول لبر الأمان، فالوقت لم يعد ملكهم، كما أن الأرض ليست أرضهم “لم يعد مهمًا وصولهم في موعد محدد، فقدوا تهيبهم أمام الموت، لم تعد الجثة تعني لهم أي شيء، يستطيعون تقديمها لجوقة كلاب جائعة دون أي إحساس بالندم، أو رميها على قارعة الطريق دون تكليف أنفسهم برميها في حفرة لستر ندوبها” 130
مع سقوط آخر الخيوط التي تربط أبناء العائلة، ومع شعور الاغتراب الذي يعتريهم في بلادهم، تبدأ أوهام الميت أيضًا بالتكشف، وبلبل هو الذي يعري تلك الأوهام، فحين يصلون إلى مناطق يُفترض أنها تابعة لجهة ثورية تظهر هناك تنظيمات إسلامية غريبة عن ثورة الأب التي دافع عنها، يتذكر بلبل مقولة الأب فيناقضها بحسرة كبيرة: “لن تنتهي الإهانات، وأولاد الثورة ليسوا في كل مكان كما كان أبوه يعتقد، هم هنا على أرض غريبة مع أناس غرباء” 113
من المذنب في يأس الأبناء عن إتمام وصية أبيهم؟ أهو سوء نيتهم؟ أم كرههم لأبيهم؟ لا هذا ولا ذاك، بل التعب، الخوف من المجهول ومن احتمالية عدم الوصول. تتحول الجثة مع الوقت إلى حقيقة يجب التصرف فرديًا حيالها، فيفكر كل واحد منهم بحياته الخاصة التي يمكنه الاستمرار فيها فقط لو تمكن من التخلص من تلك الجثة. “في قرارة أنفسهم، فكر الثلاثة بأنهم لن يضحوا من أجل أحد، الحفاظ على حياتهم رغم بؤسها كان هدفًا يضمره الجميع.” 120
حين يقترب بلبل من العنابية حيث سيدفن والده، هناك يشعر بخوف لا يعرف مصدره، يرى في دفن أبيه هزيمة له (يجب التنويه قبل قراءة الاقتباس إلى أن الأب لا يود بعودته إلى قريته أن يثبت خسارته، على العكس تمامًا فالأب يظن أن عودته هي انتصار لذاته، ولهذا يكلف أولاده عناء تحقيق هذا النصر): “لا يعرف سببًا لانقباض قلبه كلما اقتربوا من العنابية، لا يريد رؤية هزيمة أبيه، بعد خمسين سنة يعود إلى مكانه الأول، الذي تركه بارادته بحثًا عن ذاته، التي لم تكن سوى مجموعة شعارات مستعارة من زمن مضى، لكن الأب تشبث به. من الصعب رؤية خوائك بعد نصف قرن من الوهم، تعود كتلة متفسخة تنبعث منك روائح بشعة، وتتناسل الديدان من خاصرتك. التفسخ إهانة حقيقية للجسد وليس الموت. “لا يمكن قبول الأب مهزومًا إلا إن كان يمثل الحلم الذي مات وهو طامحًا لتحقيقه” 135
يبقى في النهاية صوت وحيد، هو صوت بلبل الذي يرى كل شيء حوله لكنه يعجز عن أخذ زمام الأمور وإدارتها (فهو لا يقود الميكروباص بل اخوه حسين المتمرد الضال)، عيونه تنظر بحسرة لجثة الأب، هو الوحيد الذي يفهم أوهام الأب والوحيد الذي يطلع على أسراره الخفية. “في رحلته الاخيرة ودّعته العواصف كما يليق بمحارب واهم، بقي حتى اللحظة الأخيرة يفخر بكل هزائمه، لم يعرف طعم النصر لحظة، لكنه كان منتشيًا به، ينتظره كقدر لابد أنه قادم، كما هو الآن، مرميًا على كرسي طويل في ميكروباص بارد دون حركة” 114-115
في النهاية يظهر الاغتراب التام، هم يتقلصون على أنفسهم يودون رسم حدودهم الفردية، حيث يدركون أن أي تآلف بينهم أصبح محالًا، وحدها الجثة تتمدد وتتفسخ، كأنها تحقق انتصارًا أخيرًا: “هم الثلاثة الآن عبارة عن أشخاص غرباء عن هذه الجثة التي مهما خسرت، فسيظل لديها شيء تربحه في النهاية يجعلها تتمدد دون اكتراث”111
يبقى السؤال الأخير، هل ينجح الأبناء في دفن جثة أبيهم في القبر الذي اختاره هو؟ أو هل ينجح أبناء الثورة في قيادة ثورتهم إلى المكان الذي أرادوه؟ يروي الكاتب أنهم نجحوا في نقل جثمان الأب إلى العنابية، ولكن ليس في القبر الذي اختاره الأب بإرادته بجانب اخته ليلى. أما عن الثورة فسيكمل أبناءها حكايتها، إن كان لهم كلام بعد!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :