إدلب – طارق أبو زياد
بدت معالم اليأس والغضب واضحة على وجه الشاب محمود نجار، لدى سؤاله عن الحالة الصحية لطفله ذي السنتين، والذي يعاني من مشاكل في التنفس، قال الأطباء إن سببها هو استنشاق الراوئح المنبعثة من عملية تكرير النفط، بالقرب من بلدة تفتناز في ريف ادلب.
“صرلو عشرة أيام بهالحالة، من دكتور لمستشفى ما عم ينيمنا الليل، سعلة وحرارة وكلو بسبب حراقات المازوت يلي معبية الدنيا، ولهلأ ما عندو تحسن واضح”، كانت إجابة محمود، التي لخّصت واقعًا باتت تعيشه المحافظة، لا سيما ريفها الشرقي، مع إعادة تشغيل حراقات النفط فيها، لترصد عنب بلدي ظهور مشاكل صحية، معظمها آفات في الجهاز التنفسي خصوصًا لدى الأطفال.
الحرّاقات تعود إلى المحافظة
الحرّاق هو مكان يتم تجهيزه في الأراضي الزراعية، وعلى الطرق بين القرى والبلدات، لتتم فيه عملية تكرير النفط الخام بشكل بدائي، واستخراج مشتقاته، ليخدّم إدلب وريفها بالمحروقات، وكانت بداية انتشاره مطلع عام 2013، وخاصة بعد خروج أغلب آبار النفط عن سيطرة النظام السوري، وعندها لجأ النظام إلى قطع المحروقات عن المناطق الخارجة عن سيطرته في الشمال السوري، الأمر الذي أوجب انتشار العملية البدائية لتكرير النفط بالاعتماد على الحرّاقات.
وبعد سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على آبار النفط في المنطقة الشرقية، أصبحت المحروقات تأتي مكررة وجاهزة للاستخدام من مناطق التنظيم، الأمر الذي أدى إلى انحسار الحرّاقات وتراجع وجودها بشكل كبير، لتستأنف نشاطها مجددًا في الشهور الأخيرة.
وتحدث تامر الديري، مالك إحدى حرّاقات التكرير في ريف إدلب، عن سبب إعادة انتشارها في المنطقة مرة أخرى “جراء التطورات العسكرية في ريف حلب الشرقي، وخاصة مع انتهاء خطوط التماس بين داعش والجيش الحر، أصبح من الضروري أن تمر الصهاريج المحملة بالمحروقات من مناطق منبج الخاضعة لسيطرة الكرد، والذين بدورهم سمحوا بمرور النفط الخام دون المحروقات المكررة إلى مناطق إدلب”.
وأكد الديري، في حديثه إلى عنب بلدي، أن هذا هو السبب الرئيسي في عودة انتشار الحراقات في المحافظة، لتأمين المشتقات النفطية لأهالي المنطقة.
تحذيرات طبية ونصائح للمصابين
وحذّر أطباء المحافظة من الانبعاثات السامة للحرّاقات، والتي عدا عن كونها ملوثًا إضافيًا للبيئة، إلى جانب انبعاثات الطيران الحربي والقنابل والصواريخ والحرائق الناجمة عنها، فهي مسبب رئيسي لحدوث آفات تنفسية، معظم ضحاياها من الأطفال.
الدكتور زهير فجر، اختصاصي أمراض الصدرية وجراحتها، تحدث لعنب بلدي عن الأضرار الصحية التي تواجه أهالي ريف إدلب جراء استنشاق الروائح المنبعثة من عملية تكرير النفط، وقال “إن استنشاقها هو سبب مباشر أو غير مباشر لأمراض القصبات والرئة، والسرطانات الرئوية والكبدية والدموية وغيرها، فضلًا عن كونها عاملًا مساعدًا في اشتداد الأمراض المزمنة الرئوية والقلبية والتحسسية”.
وحذّر فجر من أن الانبعاثات السامة هي سبب مباشر لمرض “التهاب القصبات الشعري”، وهو مرض “خطير جدًا” بحسب الطبيب، نسبة وفياته مرتفعة ولا سيما عند الأطفال، وأضاف أن هذه الروائح هي “تلوث بيئي قاتل للإنسان والحيوان والنبات”.
وأكد الطبيب المقيم في ريف إدلب، أن هناك مرضى أصيبوا بآفات تنفسية جراء الروائح، وقف عليها وحاول علاجها دون جدوى بسبب التعرض المستمر لها.
وقدّم فجر نصائح للقاطنين في مناطق قريبة من الحرّاقات، مشددًا على ضرورة الابتعاد عن هذه المنطقة وعدم استنشاق الروائح السامة، والإكثار من شرب الحليب والسوائل بشكل عام، ومنها الزنجبيل والقرفة، كمواد مساعدة على التخلص من السموم في جسم الإنسان.
تحرك لإزالة الحرّاقات شرق إدلب
وحصلت عنب بلدي على نسخة من قرار أصدرته “هيئة تحرير الشام” بتاريخ 3 آذار الجاري، يقضي بإزالة الحرّاقات النفطية في بلدة معارة النعسان بريف إدلب الشرقي، بعد تكرار شكاوى الأهالي.
وذكر الفصيل في قراره، أنه تلقّى عدد كبيرًا من شكاوى الأهالي، الذين “ثبت تضررهم صحيًا بسبب الروائح السامة المنبعثة من الحرّاقات”، وتم إيعاز المالكين بإزالة حراقاتهم قرب البلدة، وإعطائهم مهلة 20 يومًا لتنفيذ القرار.
الشاب براء أبو الحسن، من أهالي ريف ادلب الشرقي، أبدى ارتياحًا لهذا القرار، ودعا باقي القرى والبلدات لاتخاذ إجراءات مماثلة، والعمل بشكل جدي على معالجة هذه المسألة التي يعاني منها الجميع، واقترح أن تزال كافة الحرّاقات من المنطقة، وتحديد مناطق محددة خالية من السكان ليتم فيها عملية تكرير النفط.
من جهة أخرى، اعتبر تامر الديري، مالك إحدى الحرّاقات، أنه من الصعب الاستغناء عن الحرّاقات في المنطقة، وذلك للحاجة الماسة لتخديمها بالمواد النفطية المكررة، لكنه أقرّ بالأضرار التي سببتها ومازالت تسببها للأهالي، وقال “لو ضُبِط الأمر بتقليص عدد الحرّاقات وتوزعها جغرافيًا لكان الضرر أقل بكثير، فالروائح المنبعثة من حراق واحد تكاد لا تتعدى مساحة 500 متر مربع، ولكن عندما تضم ذات المنطقة عشرة حراقات فحتمًا ستتفاقم المشكلة”.
بين الحاجة الماسة لوجود الحرّاقات لتأمين احتياجات المنطقة، والأضرار البيئية والصحية للأهالي عمومًا وأطفال إدلب خصوصًا، يبدو أن الحلول الجذرية للمسألة أمرٌ مستبعدٌ طالما أن تنظيم “الدولة” مازال يتحكم بالآبار النفطية شرق سوريا، ويصدّر منتجاتها الخام إلى المناطق “المحررة”.