عنب بلدي – حنين النقري
لم تكن الجامعات السورية تخلو من وجود بعض الطلبة بأنماط مميزة عن سواهم، فقد ترى على أحد المقاعد أربعينيًا يجاهد لإتمام دراسته، أو سيدة في عمر والدتك ترغب في نيل شهادة جامعيّة بعد أن أدّت واجباتها تجاه أبنائها. ورغم وجود هذه النماذج إلا أنها كانت من الندرة بمكان، ما يجعلها محطّ انتباه وتشجيع كبير من عموم الطلبة.
اليوم، وبعد ستّ سنوات من الثورة، وانقطاع الآلاف من الطلبة الجامعيّين عن جامعاتهم داخل سوريا، يحاول جزء كبير منهم وصل أواصر ما تقطّع، ومتابعة نيل تعليم تركوه لأسباب عديدة، أبرزها الخوف من الاعتقال والتشبيح في الجامعات، لكن هذه المتابعة المتأخرة للدراسة جعلت الطالب الجامعيّ يعود بأشكال متنوعة، لا تشبه الصورة النمطية التي نعرفها.
“كان همّي الأكبر أن أرفّع موادي الجامعيّة وأتخرّج في أسرع وقت ممكن، لكن عندما اشتعلت الثورة، تلاشى ذلك أمام إصراري على المشاركة بكل المظاهرات، وهكذا تغيّر سلّم أولوياتي ولم يعد للتخرج مكان فيه”، يقول محمد، طالب هندسة كهرباء من جامعة دمشق، ويتابع “في عام 2014 سافرتُ إلى تركيّا ومنها إلى ألمانيا، بعد أن عُمّم اسمي في لوائح المطلوبين، وهنا بدأتُ أتذكر دراستي، وبدأت الجامعة بالعودة لسلّم الأولويات بدعمٍ من عائلتي”.
أصغر بعشر سنوات
بعد دراسة اللغة الألمانية وتجاوز امتحانها، تقدّم محمد بأوراقه لإتمام دراسته الجامعية، وحاز على القبول في إحداها “بعد الكثير من السعي والجهود والامتحانات” حسب تعبيره، يتابع “رغبتي الكبيرة بمتابعة الدراسة هي ما حفزني لتجاوز كل الصعوبات في سبيل متابعة دراستي، اليوم أجلس على المقاعد جنبًا إلى جنب مع طلاب أصغر مني بعشر سنوات، وهو ما يعبرون عن إعجابهم البالغ به”، يضحك متابعًا “تمامًا كما كنّا نشجّع الطلاب الكبار في العمر على المتابعة والتحصيل في جامعاتنا”.
يقول محمد إن حالته ليست الوحيدة في محيطه، فهناك العديد من الطلبة السوريين بأوضاع مشابهة، ويضيف “الكثير من زملائي ممن انقطعوا عن جامعاتهم عادوا للدراسة في مختلف دول العالم، حتى الذين تخرجوا يحضّرون لدراسات عليا، هو نوع من التشبّث بالعلم وتحصيله بعد أن فقدنا كل شيء”.
أحلام..
لم يكن نمط الطالب الجامعيّ العامل شائعًا بكثرة في الجامعات السورية، وبشكل خاص، في الفروع التطبيقية التي تحتاج دوامًا يوميًا وتتطلب قدرًا كبيرًا من المتابعة، وهو ما استطاعت سلمى، وهي سورية مقيمة في تركيا، تحقيقه في معادلة صعبة التوازن إلا بجهود استثنائية، تروي لنا قصتها “خرجت من سوريا مع أخي عام 2015، ولم يكن بيدي إلا شهادة ثانوية حصلتُ عليها منذ عدة سنوات ولم يتح لي الدراسة بها بسبب سوء الأوضاع الأمنية”.
في تركيّا، عادت أحلام الجامعة مجددًا لسلمى، وهو ما بدأت بتحقيقه باجتياز امتحان الطلاب الأجانب YÖS، ومن ثم التسجيل في كلية هندسة العمارة، تقول “لم يكن الأمر سهلًا بالنسبة لي، أن أبدأ من الصفر، بلغة جديدة، وأعيش بعيدًا عن أسرتي كلها، كان ذلك تحديًا حقيقيًا لي”.
عمل ودراسة
لم ترغب سلمى في الاستمرار بالاعتماد على أهلها بمصروفها، وهو ما جعلها تبحث عن عمل، تقول “المعيشة في تركيا مكلفة بالنسبة لشخص يعيش في سوريا، وهو عبء رغبت برفعه عن أهلي عبر العمل بشكل حر عن طريق الإنترنت”.
تعيش سلمى في السكن الطلابي التابع لجامعتها، وتتحمل نفقات دراستها بشكل شخصيّ، تقول “ساعدتني عائلتي في البداية، لكنني وجدتُ عملًا في موقع للعمل الحر على الإنترنت، وصرتُ أخصص وقتًا يوميًا بعد العودة من الجامعة لذلك، وأجني من المال ما يكفي متطلباتي البسيطة”.
أما عن إمكانية الدراسة إلى جانب العمل، تقول سلمى إنها تعتمد على الاستفادة من الحضور بأكبر شكل ممكن، وتضيف “أعتمد على الانتباه التام أثناء المحاضرات وهو ما يعفيني من تكريس وقت طويل لدراستها لاحقًا، كما أنني أخصص عطلة نهاية الأسبوع للدراسة، وأتفرغ في أوقات الامتحانات للدراسة كليًا”.
لا تخفي سلمى صعوبة نمط حياتها الحاليّة، فهي تكاد لا تمارس نشاطات اجتماعية تذكر، ووقتها مقسّم بين حضور جامعيّ صباحًا، وعمل على الإنترنت مساء، لكنها تجد لذلك ميزة تساعدها على الاستمرار، وتوضح “ملء وقتي بهذا الشكل لا يتيح لي فراغًا أفكر به بشوقي لأهلي، أو بعدي عنهم، عندما أضع رأسي على الوسادة أنام دون تفكير، وهو أمر مريح بالتأكيد”.
تصحيح مسار
“كان انقطاعي عن الدراسة، ومن ثم سفري فرصةً لتصحيح قراري وتغيير فرعي الدراسي”، بهذه الكلمات تختصر مايا عدة سنوات من التخبط والضياع بين رغبة الأهل، ورغبتها الشخصية، تقول “للأسف، أهلتني درجاتي في البكالوريا لدخول كلية الطب، وهو ما أجبرني أهلي عليه وما لم أكن أرغب به على الإطلاق، إذ كنتُ أميل لهندسة المعلوماتية، لكن أهلي خيروني بين الطب أو البقاء في المنزل، واخترت الطب”.
انقطعت مايا عن الدراسة في سنتها الثالثة، وخرجت مع عائلتها إلى الأردن لتتزوج هناك، تقول “عندما تزوجت لم يبق لأهلي سلطة لإجباري على الإتمام في مجال الطب، وهكذا بدأت بعد إنجاب طفلتي الأولى بالبحث عن طريقة لتصحيح المسار والدراسة في الفرع الذي رغبتُ به بشكل أساسي، بتشجيع ودعم كبير من زوجي”.
ووجدت مايا ضالّتها في جامعة أمريكية افتراضية تدرس علوم الحاسب عن بعد وتعطي شهادات يعترف بها عالميًا، تقول “تكلفة الدراسة فيها ألف دولار سنويًا وهو مبلغ معقول للغاية مقارنة بباقي الجامعات، إضافة لجودة مناهجها، وهكذا قررتُ متابعة الدراسة فيها، وأنا الآن طالبة في سنتي الأولى في المجال الذي أحبه، كما أملك الوقت اللازم لإدارة شؤون المنزل والعناية بطفلتي”.
طلاب–أزواج
“لم يكن الزواج قبل التخرّج أمرًا محبّذًا لدى معظم العائلات ومن بينهم عائلتي، بسبب المسؤوليات الكبيرة التي يترتّب عليها، وصعوبة الجمع بين مسؤوليات الزواج والجامعة جنبًا إلى جنب، لكن هذا، كالعديد من الأمور، تغيّر تمامًا بتغيّر الظروف كلها” يقول رامي، طالب جامعيّ في تركيا وزوج طالبة جامعية في الوقت ذاته.
كان رامي في السنة الرابعة من دراسته في هندسة المعلوماتية عندما اضطر لمغادرة البلد، مسافرًا إلى تركيا وحده، يضيف “أعلم تمامًا أني لن أعود لسوريا قبل سقوط النظام، وهو أمر لا أحد يعلم متى سيكون، ولا أحد لي هنا في تركيا، لذا بدأت البحث عن زوجة تكون لي أهلًا وتخفف عني الوحدة، وهكذا تقدمت لإحدى معارف والدتي وتزوجنا بعد فترة خطبة قصيرة، كان ذلك جنبًا إلى جنب مع محاولاتي التقدم للجامعات وإتمام الدراسة”.
يعيش رامي مع زوجته اليوم في منزل صغير، ويقصدان الجامعة نفسها صباحًا، يقول عن هذا “ظاهرة الطلاب الأزواج منتشرة بين أصدقائي، ولها مبررها في الغربة بطبيعة الحال، أن أعود إلى المنزل فأجد زوجة تنتظرني، نتشارك الطعام، نتناقش في أمور الجامعة، نتبادل الأحاديث ونعيش دفء العائلة، هذه جنة حقيقية بالنسبة لأي مغترب، وهو يساعدني بالتأكيد على التركيز في دراستي وبذل جهود أفضل، خلافًا لما كنا نعتقد”.