طريف العتيق
عانى المجتمع الإسلاميّ الأوّل من اضطراباتٍ سياسيّة وعسكريّة عدّة، بدأت باغتيال عمر الفاروق، وتلاها معارضة واسعة لتسلط بني أميّة على مفاصل الحكم في نهايات عهد عثمان، ثم الاقتتال الذي شجر بين عليّ ومعاوية، وها هو العام الواحد والأربعون للهجرة قد أتى، والمسلمون أثقلتهم الجراح والآلام وكثرت عليهم الدماء والثارات.. الأمر الذي مهدّ لدور الحسن في صلحه مع معاوية، كما كان لانشقاق قائد جيش الحسن عبيد الله بن العباس مع آلاف المقاتلين وانضمامهم لجيش معاوية الأثر المرجّح للصلح عند الحسن، عندما وجد نفسه وحيدًا في بعض الخلّص من أصحابه لا غير..
وتذكر كتب التاريخ أن معاوية أرسل للحسن صفيحة بيضاء عليها ختمه، ليكتب عليها ما شاء من شروطٍ للصلح، فكان مما جاء في تلك الصفيحة: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب الله و سنة رسوله، وليس لمعاوية أن يعهد الى أحد من بعده عهدًا، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين».
توفيّ الحسن بن عليّ عام خمسين للهجرة اغتيالًا بالسمّ، فما لبث معاوية أن طرح مبايعة ابنه يزيد وليًا للعهد، ليخلفه في الحكم من بعده، ناقضًا بذلك العهد بينه وبين الحسن، ومن هنا ثار الحسين بن عليّ على يزيد، رافضًا مبدأ التوريث، ونقض الشورى، وخيانة العهد.
فهل لا تزال «ثورة الحسين» و «انتفاضة سيد الشهداء» التي يعاد إحياؤها كلّ عام في العاشر من محرّم، تحمل هذه الحمولات القيميّة؟ لقد ثار الحسين ضدّ مبدأ التوريث، ورفضًا لخيانة العهد، ومحاربة لنقض الشورى، فهل يعقل أن تعبّأ اليوم القوى التي تحمل شعارات الحسين وثاراته في معركةٍ للدفاع عن التوريث، وحماية للاستبداد، وذودًا عن خائني العهد والمواثيق.
لقد حُورت القيم التي ثار لأجلها الحسين، وشُخصنت، وتحنطت في معابد الأشخاص والتاريخ، بدلًا من أن تبقى مطلقة في سماء القيم والمقاصد، فالثورة على الظالم، صارت ثورةً على بني أميّة وحدهم، ومحاربة الاستبداد، صارت محاربة ليزيد، وهكذا، بدلًا من أن يُحَمّل موقف الحسين بحمولات قيميّة، حُمّل بحمولات تاريخيّة – شخصيّة، حتى أفرغ من كلّ جوهر، وبقيت الصور خاوية بلا مدولات.
ويبدو هذا كلّه أيضًا قريبًا ممّا يحدث اليوم، إذ غابت قيم الحريّة والعدالة والكرامة، لتحلّ محلها أسماء الألويّة والكتائب، وغابت محاربة الظلم والفساد والاستبداد، ليحلّ محلها محاربة رموز النظام، وبذا ضاعت البوصلة، وحملت الثورة عينها من الظلم والفساد والاستبداد شيئًا كثيرًا، وغاب عن تياراتها وعامليها قيم الحريّة والكرامة طالما كانت تحافظ على الأسماء والرسوم.
التزوير يعمل دومًا على إماتة القيم، وإحياء الأسماء والأشخاص، وهكذا تحوّر كلّ ثورة، وكل انتفاضة، وكل سعيٍ صادقٍ للخير.