رجلان وامرأة
بعد اسبوع، تلتقي أنغيلا ميركل الرئيس الاميركي دونالد ترامب. آخر زعيمة في النظام الديموقراطي الليبرالي ، وأول زعيم أميركي يرفض استقبال الصحافة التقليدية في البلاد، لكي يسلم اعلام البيت البيض إلى “تويتر”: 40 مليون متابع حتى اللحظة. تصل الفراو ميركل من برلين، مدينة التحولات التاريخية التي لا تصدق. مدينة فصلت يوماً بين الشرق والغرب، ووضعتهما على حافة حرب عالمية ثالثة، ثم هدمت جدارها، وجمعت بينهما، وأعادت وحدة الالمانيتين.
عندما كانت الفراو ميركل تنشأ في برلين الشرقية على التربية البروتستانتية البيوريتانية، كان فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين في المدينة، يدير معركة صمود الجدار والشيوعية في وجه الرياح الامبريالية. التاريخ، مضحك التاريخ، بقدر ما هو دامٍ ومزاجي. الآن، يدافع فلاديمير فلاديميروفيتش عن الكنيسة والأثر القيصري الروسي، ويقف متسربلاً في تذكر ثورة اكتوبر المجيدة قبل مائة عام على وجه الضبط: ماذا يتذكر منها وماذا ينسى؟
بعد خروج بريطانيا من الوحدة الاوروبية، ونزول شعبية فرنسوا هولاند الى 16% في معركة انتخابية قد لا ينقذها إلاَّ آلان جوبيه، تبدو قيادة العالم بين ثلاثة: ترامب وبوتين وميركل، والصين في البعيد، تترقب – على الطريقة الصينية – سانحة القفز إلى مقعد الواجهة. أما الآن، فهي تكتفي بتقليد الروس.
من السذاجة الاعتقاد أنه حلف دائم. فالتشرمان ماو نفسه، طوى ديوانه الأحمر، واستقبل في “المدينة المحرمة” ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر، وتركهما يلاحظان أن الشخص الاكثر نفوذاً في اللقاء هو مترجمته. ممتلئة وبشوشة، يصف كيسينجر في مذكراته، الرفيقة المترجمة. وجذابة ايضاً.
لماذا يجيء بوتين وميركل من برلين إلى واجهة التاريخ؟ رجاء، اسألوا التاريخ. انا كل ما فعلته انني تمشيت في المدينة غير مرة، اقرأ اسماء الشوارع والجادات والبوابات، وكأنني في معرض تذكاري للحروب والانتصارات والهزائم والدمار. هنا، أعلن هتلر أنه سوف يبني “نظاماً عالمياً” يدوم الف سنة، مثل نظام شارلمان. دام نظامه دزينة واحدة من السنين، وانتهى برصاصة في الصدغ. الأيسر أو الأيمن. قال الدوتشي موسوليني بكل خبث للمفكر الالماني اميل لودفيغ: الفرق بين صاحبك في برلين وبيني، أنه زعيم درجة ثانية لدولة درجة أولى، وأنا زعيم درجة اولى لدولة درجة ثانية”.
النظام العالمي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، تائه، يبحث عن بقايا نفسه. عندما أعلن فرنسيس فوكوياما “انتهاء التاريخ” بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تسرَّع مثل الاطفال الفرحين بالأعراس. التاريخ لا ينتهي. التاريخ، كما قال عبقري فرنسا جورج كليمنصو، دائماً يكرر نفسه، ولكن علينا أن نمنعه من ذلك.
هذا ما تحاول أنغيلا ميركل فعله: واقفة بين رجل يريد أن يعيد “أميركا عظيمة مرة أخرى”، وآخر يريد للاتحاد الروسي أن يثأر للاتحاد السوفياتي. تحاول من نبع حروب العظمة في برلين، أن تبقي النظام العالمي في اطار العقل والإنسان.
“فيلهم شتراسه”. أو فيلهلم الثاني، أو وليم، كما هتفنا له في المشرق. ماذا قال القيصر صاحب هذا الشارع؟ قال، وهو يتأمل ازدهار باريس، أن “باريس تقض مضاجع أهل برلين عليها!”. تحاول ميركل أن تقلب التاريخ. ابنة مبشر بروتستانتي، كان يكرز في البيت دوماً حكاية الخد الأيمن والخد الأيسر. وبكل اقتناع. ولذلك عندما ارتعدت أوروبا من مشهد مليون انسان يركبون البحر في مراكب الموت، وحدها المستشارة قالت، دعوهم يأتون الينا.
يعيش ملايين الوافدين غير الشرعيين في أميركا برعب. في أي لحظة يمكن أن تقرع شرطة الترحيل أبوابهم. عندما كانت المسز ماي وزيرة للداخلية، كان أي مهاجر يقيم دعوى على الوزارة ويربحها ويبقى. ليس بعد “بريكست”. الاسبوع الماضي تحدثت “الغارديان” عن حادثتي ترحيل قسري، إحداهما لرجل انقذ طفلين من حريق في مانشستر، قبل عشرين عاماً.
ولكن ماذا تفعل بهذا العالم؟ أيضاً الاسبوع الماضي احتفلت النمسا بمرور 150 عاماً على تأليف “الدانوب الازرق”، وأوقفت ثمانية لاجئين عراقيين تناوبوا على اغتصاب امرأة. في حين ان لاجئاً آخر في الدانمارك، ذبح ابنته على عتبة المنزل لأنها خرجت مع دانماركي حقير.
بعض الاعتاب لم تصلها حركة التاريخ بعد. لم يصلها شيء. كنت اتمنى دائماً وانا اتمشى في برلين، أن يأتي زعماء العالم الثالث الى هنا في دورة خاصة بعد الوصول الى الحكم. بروسيا المحاربة وبرلين التي تصبح رمزاً لسلام العالم. فيلي برانت وهلموت كول وأنغيلا ميركل. وفي بلدة صغيرة على الراين تدعى بون، يعيد العجوز كونراد اديناور بناء المانيا الغربية من الركام، ثم يعقد صلح الراين الأخير مع ديغول، قاهر الاحتلال الالماني. نسي الجنرال أن فرنسا كانت ذات يوم على الراين نفسه.
سوف تكون المشكلة الاولى في لقاء ترامب وميركل، مشكلة التاريخ ومعرفته ودروسه. وهي مشكلة غير عادية عندما يكون الطرف الآخر رئيس اميركا، ويكون الزمن بدايات القرن العشرين. ويا لها من بدايات سيئة ومشينة، تبدو أحياناًً أسوأ من النهايات. عندما تتمشى في برلين، ام الحدائق في عواصم اوروبا، يأخذك التاريخ من ذراعك، ليس برفق، وإنما ليتكىء عليك. فهو مكسور وخجول. فعندما قرر القيصر فيلهلم الثاني ان يجعل برلين “مدينة العالم”، لم يخطر له انها سوف تصبح مسرح السقوط، أو بالأحرى الستارة التي سوف تسقط على أهم تجربتين ايديولوجيتين في التاريخ، النازية والشيوعية. الأولى، سوف تحولها إلى ركام وأرامل وجنود في الثانية عشرة من العمر، والثانية، سوف تتحول حجار جدارها إلى تذكارات انتقامية، من ذلك الالماني الحالم الذي كان وراء كل شيء، ماركس. كارل ماركس.
ميركل، خلاصة التجربتين، شوفينية الأولى وعنصريتها، و “عالمية” الثانية. وسوف استعير مرة اخرى من موسوليني الذي قال في وصف الحروب القومية أن “الارض الأم شبح ثأري انتقامي وطاغ”. ميركل، المتحررة من آثار التاريخ الثأري الدماري، تمثل هي اليوم، وليس أميركا، ما كان يسمى “العالم الحر”. اي السعة الديموقراطية القادرة على احتضان الآخر، ليس كموقف ورأي، بل كمسؤولية اجتماعية ومادية. وفقاً لتغريدات ترامب على “تويتر”، أنه لا يمثل شيئاً من هذا. ولا بوتين، الشريك المضارب في قيادة العالم، الذي يخوض حروب الداخل، والجوار، وما أبعد من الجوار. لم تعلمه الكثير سنوات برلين الشرقية ومشاهد تفتيت الجدار.
في هذا الثلاثي، وحدها ميركل لا تريد “المانيا عظيمة مرة أخرى”. لماذا؟ لأن المانيا العادية أهم دولة في اوروبا. ومن دون “الرايش” الثاني، أو الثالث، تحولت في السلم الى دولة كبرى تسعف بسطاء اوروبا والعالم، بينما تعاني أميركا وروسيا وهناً اقتصادياً.
من الصعب أن نتخيل وقائع لقاء بين دونالد ترامب وأنغيلا ميركل. سيدة قادمة من اعماق التجربة التاريخية، ورجل من تجارة العقار. لكن الكلمة لميزان القوى في هذا العالم المتهتك أبداًً. وفي هذا الميزان، أوروبا قارة ضعيفة، بلا نفوذ سياسي حقيقي. وقد طعنتها تيريزا ماي، التي ارتعدت من منظر اللاجئين، بعكس السيدة المستشارة. وقد لا تكون الطعنة الاخيرة. وبعد تلاشي كتلة عدم الانحياز والتجمعات الاستقلالية الأخرى، يبدو أن عالمنا هذا، قد ضربت من حوله مرة اخرى حبال القطبين. ليس لدى ترامب الجلد على الاصغاء للقارة القديمة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :