لم يتوقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حجم المقاومة التي ستبديها “المؤسسة الحاكمة” في واشنطن لتوجهات إدارة الرئيس دونالد ترامب، في تحقيق تقاربٍ مع روسيا، فقد استنفرت “المؤسسة” كل قدراتها، وحشدت كل إمكاناتها في الكونغرس ووسائل الإعلام والمؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات ودوائر البيروقراطية والحزب الجمهوري، لمنع ترامب من المضي في هذه السياسة، وبدأت زرع الألغام في طريقه، حتى قبل استلامه السلطة. إذ طرد الرئيس باراك أوباما، عشية مغادرته السلطة، عشرات الدبلوماسيين الروس، وفرض حزمة جديدة من العقوبات، رداً على تدخّل روسيا في الانتخابات التي أدت إلى فوز ترامب، وخسارة مرشحة حزبه التي كان يأمل من خلالها الحفاظ على إرثه الرئاسي الهزيل، لكن ترامب لم يَبدُ كمن فهم الرسالة. على العكس، قام الرجل بهجوم معاكس، اتهم فيه الاستخبارات بالكذب، ليأتيه الرد بنشر تفاصيل مكالمات مستشاره لشؤون الأمن القومي، مايكل فلين، يعد فيها السفير الروسي في واشنطن برفع العقوبات التي فرضها أوباما، قبل تسلمه منصبه. لم يرتدع ترامب بسقوط مستشاره، فانفتحت ملفاتٌ أخرى تتناول علاقات روسيا بوزير عدله، ثم صهره، وأخيراً ابنه الذي تبين أنه تقاضى 50 ألف دولار لقاء كلمةٍ ألقاها في باريس خلال حفل أقامته شخصيات قريبة من روسيا في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي. ويبدو أن القلق استبد بموسكو إلى درجة أن وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وصف ما يجري في واشنطن بصيد ساحرات (Witch Hunt)، بعد أن تم وضع معظم أصدقاء روسيا في إدارة ترامب في دائرة الضوء.
واضحٌ أن بوتين، بحسب وسائل إعلام أميركية كبرى، كان يأمل في التوصل إلى صفقة شاملة مع إدارة ترامب، تتناول أوكرانيا ومسألة العقوبات الاقتصادية، والتنسيق الأمني والعسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والأزمة السورية، وموضوع النفوذ الإيراني، والنشاط الصيني في بحر الصين الجنوبي، وقضايا الحد من الأسلحة النووية، هكذا بالترتيب.
ويبدو أن الاتصالات حول صفقةٍ محتملةٍ، تتناول كل هذه القضايا، بدأت مع الحملة الانتخابية للمرشح ترامب، حيث يعتقد أن روسيا عرضت المساعدة في كسب الانتخابات، من خلال كنز المعلومات التي كانت توصلت إليه، نتيجة اختراق البريد الإلكتروني لحملة كلينتون الانتخابية. وفي المقابل، يبدو أن حملة ترامب تعهدت برفع العقوبات عن روسيا، والاعتراف بضمها القرم، والمساعدة في إطاحة خصمها الرئيس الأوكراني، بيترو بورشينكو، في إطار مقترح سلام لحل الأزمة الأوكرانية.
تفاصيل خطة إطاحة الرئيس الأوكراني، بحجة تورّطه في قضايا فساد، كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز، أخيراً، وأدى فيها رجل أعمال أوكراني طامح إلى جانب محامي ترامب الشخصي، مايكل كوهين، دوراً رئيساً، ويخضع الأخير حالياً للتحقيق بشأن صلاته بروسيا من الأجهزة الأمنية الأميركية. ولا يبدو واضحاً فيما إذا كان بوتين تعهد، في المقابل، بالمساعدة في إخراج الأسد من السلطة، في إطار خطة سلام تعالج هموم واشنطن في سورية، وهي: القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية ووقف تدفق اللاجئين، والحد من النفوذ الإيراني. لكن المؤكد أن بوتين بدا منفتحاً على أي مقترح للتعاون مع ترامب، يؤدي إلى حل مشكلته في أوكرانيا، ورفع العقوبات عن بلاده. ويأتي وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة، والضغط على طهران للقبول به، والانفتاح على فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها أحرار الشام وجيش الإسلام، التي سبق أن وصفتها موسكو إرهابية، تأتي جميعاً في سياق استعداد روسيا لإبداء مرونة في سورية، إذا أبدت واشنطن القدر نفسه من المرونة بشأن أوكرانيا.
ويبدو أن عودة روسيا إلى التصعيد مع المعارضة على الأرض، وفي جنيف، يمثل تعبيراً عن الاستياء من تعطّل صفقة سورية مقابل أوكرانيا، التي تناولها الرئيس بوتين علناً الشهر الماضي، في إطار تعليقه على الصعوبات التي تواجهها مفاوضات جنيف، واستخدام روسيا “الفيتو” في مجلس الأمن، لإسقاط مشروع قرار يدين النظام السوري بشأن استخدام أسلحة كيميائية، بعد أن كانت قد وافقت على إنشاء لجنة أممية للتحقيق فيها. وبتعطل هذه الصفقة، يبدو أن موسكو عادت بنا إلى المربع الأول في المسألة السورية، بعد أن أعطت بعض الآمال إثر التفاهم التركي-الروسي.