لم يكن مفاجئاً أن تسلّم الميليشيات الكردية شريطاً من القرى المتاخمة لمناطق قوات “درع الفرات” للنظام، وأن تتقاسم السيطرة على مدينة منبج مع النظام، وأن تعمد أيضاً إلى رفع العلم الروسي إضافة لرايتها، مع أنها تحظى بدعم أميركي لم يتوقف أسوة بالدعم المقدم لفصائل معارضة. التنسيق بين الميليشيات الكردية والنظام وحلفائه ليس جديداً، والانسحاب لصالح الأخير “أو بموجب تعليماته” ليس جديداً. الجديد هذه المرة هو اجتماع الدعم الأمريكي والروسي معاً لدعم الميليشيات ضد قوات “درع الفرات”، أو بالأحرى ضد النوايا التركية التي كانت معلنة في خصوص التقدم للسيطرة على مدينة منبج.
المسألة هي إذاً اجتماع كل الأطراف على تحجيم الدور التركي، وحصره في ما يشبه المثلث الحدودي الخاضع للنفوذ التركي المباشر، بعد أن أدت هذه المنطقة دورها المتفق عليه في منع الميليشيات من السيطرة على الشمال السوري كله. إرضاء تركيا يتوقف عند طمأنتها على هذا النحو، وهو ما تشترك فيه مع إيران التي لا تود رؤية تنامٍ للقوة الكردية يشجع أكراد إيران، ومع النظام الذي يخشى قليلاً من خروج الميليشيات الكردية عن دورها المرسوم، بخاصة مع غموض التوجهات الأميركية.
سلوك إدارة ترامب يستوجب التوقف، فدعم الميليشيات ضد أنقرة يخالف ما تعلنه الإدارة عن محاصرة النفوذ الإيراني، وهي تدرك بالتأكيد أن الميليشيات الكردية تأتمر أولاً بتعليمات “جميل بايق” قائد قوات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل العراقية، والمعروف بأنه رجل طهران والقائد الفعلي لقوات الحزب في تركيا وتوأمها السوري. كما أن سلوك إدارة ترامب في قضية منبج يؤشر على المنحى المرتقب الذي ستكون عليه معركة مدينة الرقة، عاصمة داعش، ولن يكون من المستغرب خوضها بتحالف يستبعد تركيا لصالح الميليشيات الكردية وقوات النظام، لتعود إلى سيطرة الأخير في النهاية. جدير بالذكر أن ممثل إدارة ترامب لعب دور المراقب فقط أثناء مؤتمر جنيف4، وغادر قبل انتهاء الجلسات، بما يناقض السلوك الحيوي على الأرض في قضية السيطرة على مدينة منبج تحديداً.
السيطرة التركية على مدينة الباب وجرابلس وبعض الريف الشمالي قد لا يكون السماح بها من أجل لجم التطلعات الكردية فحسب، موسكو تريد مقايضة هذه المساحة بدور تركي فاعل يشجع الفصائل الإسلامية والمعارضة على تسوية مع النظام تضمن بقاءه، وربما تريد إقامة قليل من التوازن بين الخصمين اللدودين، تركيا وإيران، بخاصة للتقليل من حجم نفوذ الأخيرة في سوريا. إدارة ترامب، التي لوّحت بمشروع إقامة مناطق آمنة، قد تجد ضالتها أيضاً في مناطق النفوذ التركي، فهذه المنطقة نموذجية من حيث الكلفة، لكونها محمية أصلاً بالتفاهم الروسي التركي الذي لن يجرؤ النظام على خرقه. تصور إدارة ترامب عن المناطق الآمنة يسمح بتحويل هذه المنطقة إلى ما يشبه قطاع غزة الفلسطيني، أي كمستودع بشري يعاني من الاكتظاظ باللاجئين.
وإذا استثنينا حساسية النظام تجاه تركيا، وأمله في استعادة السيطرة على كافة البلاد من باب تحقيق انتصار كلي على السوريين، لا يوجد في هذه المنطقة ما يثير شهيته، فهي خالية من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز، وحتى زراعتها تعتمد على قناة جر مياه قادمة من الفرات ويمكن التحكم بها من هناك، بخلاف منطقة منبج التي تحتوي على سد تشرين الحيوي لجهة توليد الطاقة ومخزونه المائي. وإذا كان ملحوظاً إصرار النظام على ترحيل أهالي المناطق المحاصرة إلى محافظة إدلب، كحل داخلي لعمليات التغيير الديموغرافي، فقد تكون “الباب” ومحيطها الوجهة المقبلة لعمليات التهجير القسري، مع التنويه بأن معركة إدلب قادمة بموجب قرار استهداف جبهة النصرة، سواء من قبل موسكو أو التحالف الذي تقوده الإدارة الأميركية.
إثر تحرير جرابلس من داعش كانت تركيا قد أشرفت على إنشاء قوة شرطة لحفظ الأمن في مناطق سيطرة درع الفرات، والإيحاء الذي رُوّج منذ البداية أن تلك المناطق ستكون محكومة وفق نظام مفتقد في مناطق سيطرة الفصائل الأخرى. ذلك يعني في ما يعنيه إنشاء آليات حكم وإقامة كيان شبيه بالدولة، وفي غياب أفق للحل في سوريا سريعاً قد تستقر هذه الصيغة مطولاً، وبخلاف مناطق تتعرض للقصف المستمر من النظام وحلفائه قد ينعم هذا الكيان بالأمن والإدارة الذاتية المنضبطة معاً. لكن التجربة لن تُقدّم أمثولة عن المناطق المحررة، كما كان يؤمل من تجربة التحرير في بدايتها، بقدر ما تنذر باحتمالات تقسيم البلاد وفق مناطق نفوذ دولية، وربما الانطلاق إلى تقسيمها نهائياً على المدى البعيد.
قد يرى البعض في هذه المساحة الصغيرة تمدداً للنفوذ التركي، وفي حقيقة الأمر لقد فعلت واشنطن وموسكو كل ما في وسعهما لتحجيم الدور التركي في سوريا منذ انطلاق الثورة. جائزة الترضية التي تنتهي عند مدينة الباب ربما تحفظ ماء وجه أردوغان داخلياً، غير أنها لا تعادل انخراط تركيا في تفاصيل الصراع السوري، وتفقد أردوغان نفسه الزعامة الإقليمية التي طمح إليها من بوابة الصراع الشيعي السني في المنطقة. لعل أفضل ما يختصر التطورات والتقلبات على هذا الصعيد هو الانتقال من حديث قديم عن انكماش حاد لسيطرة النظام، وقرب اقتناعه مع الحليف الإيراني بإنشاء دولة علوية يمكن الدفاع عنها، إلى اقتصار المشروع المضاد على اقتطاع دولة “الباب” ككيان “عربي سني”، في حين لم تكن سوى جزء صغير من دولة “الخليفة البغدادي”.