إبراهيم العلوش
تتحدث الأجهزة الرسمية عن اللغة العربية وضرورة التمسك بها، وتحارب استخدام اللهجات المحكية، لكن ثمة لهجة واحدة سائدة في كل فروع المخابرات وغرف التعذيب، وفي معظم حواجز النظام التي ملأت الأرجاء السورية.
يعلن التلفزيون كل يوم عن رغبة الجيش العربي السوري بانضمام شباب سوريا إلى صفوف القوات المسلحة، وفي الحقيقة فإن هذه الإعلانات موجهة لطائفة واحدة، لتوريطها واستعبادها بخدمة المافيا الأسدية الحاكمة، ومعظم من يُقبل من خارجها فهو يُقبل لحمل أحذية الآخرين، والتملّق لهم، ولكتابة التقارير بمن يحيطون به.
يتحدثون عن حفظ القرآن الكريم، وضرورة العمل بقيمه النبيلة، ولكن الغنائم والتعذيب والذبح هي أدوات تمكين الأخلاق التي يفهمها الطائفيون من كتاب الله، ففتوى التكفير تبيح ابتلاع الآخر وتحويله إلى شيطان رجيم.
يتحدثون عن المسيح رسول المحبة والسلام، في حين يظهر الرهبان يبخّرون طائرات القصف الأجنبية، ويباركون صواريخها التي ستهطل على الأطفال والنساء والبيوت والأفران والأسواق الشعبية، بحجة أنهم تدنسوا بوجود إرهابيين بينهم.
يتحدث اليساريون عن الطبقة العاملة، وعن قيم الحرية، ولكن عندما يتم الحديث عن التعذيب والممارسات الإرهابية للنظام، يشيحون بوجوههم ويتنكرون حتى لرفاقهم الشجعان من المعتقلين، ويعتبرونهم مجرد اشتراكيين طفيليين. ويتحالفون مع الثورة المضادة، ويحطمون التحالف مع الاتحاد السوفياتي الصديق سابقًا، وضد حلف الممانعة الطائفية لاحقًا.
يتحدث المثقفون عن قيم الحداثة، وما بعد الحداثة، ويتدحرجون عند طوائفهم وعشائرهم، ويكرّرون بيت دريد ابن الصمة الحماسي: وما أنا إلا من غزّية إن غوت غويت… وتصبح كل التنظيرات مجرد حبر على ورق وبضاعة للاستهلاك من قبل بسطاء الناس، الذين يصدقون المضخات الإعلامية التي يحتضنها النظام ويرعاها.
ويهبّ الملفقون من كل الطوائف ويرددون هذا ليس موقفنا الحقيقي، وهذا خطأ فردي، ولكن لا بدائل لدينا تحمينا من الطوائف الأخرى، نريد حماية، ونفوذًا أبديًا في السياسة، والنهب، والجيش، والتعذيب، والزراعة!
اليوم وبعد كل هذه المكاذبات يصبح مصطلح جان جاك روسو (العقد الاجتماعي) مجرد نكتة، أو خدعة لا تنطلي إلا على السذج، مثلها مثل شعار “الشرطة في خدمة الشعب”، وشعار “وحدة حرية اشتراكية”!
لقد نجح النظام بإرساء المفاهيم الطائفية وترسيخ استثمارها، مستفيدًا من تجربته في الحرب الأهلية اللبنانية التي نقل فيروساتها إلى الداخل السوري، فصارت كل الأطراف تعلن شيئًا وتخفي تحت الطاولة شيئًا آخر، وتجعل مسرحية العقد الاجتماعي هزليّة، فمثقفو الطوائف ظلّوا متشبثين بطوائفهم بكل ممارساتها، وبكل ما تبطن من حقد على الطوائف الأخرى، مجتمعة أو متفرقة، ولا يغري أحدًا منظّرو طائفة ما، يعتنقون قيم الحداثة ويتناولون الوضع الهمجي للطائفة المنافسة ووضع المرأة فيها، في حين أن المرأة في طائفته لا تنال أي دفاع عنها، ويمارس هو نفسه التحقير لها، فلا تتزوج إلا شبه خطيفة، أو تعامل كمخلوق غير بشري يحق له ما يحق للحيوانات من حرية الغرائز.
ويصبّ آخر لعناته على تدني القيم الإنسانية في الطائفة المقابلة، في حين يصمت عن ممارسات أخيه الضابط المتطوع في المخابرات المقتصرة قياداتها على طائفته، والذي يتباهى أمام العائلة بطرق تعذيب الإرهابيين وانتزاع الاعترافات منهم وإعدامهم بعد انتهاء صلاحيتهم!
شاركت كل الطوائف السورية في رفع شعارات القومية والاشتراكية، وفي الدعوة إلى النقاء الديني والأخلاقي، ولكن ممارساتها على الأرض لا علاقة لها بكل هذه الشعارات، وإن حدث أن نفذت هذا الشعار أو ذاك، فهو أمر تكتيكي ومؤقت، ولا يؤخذ على محمل الجدية، وظل المثقفون والسياسيون والنخب تحت السقف الطائفي ولا يجرؤون على تحدي قيمه إلا على الورق، ويشمل ذلك الكاتب المبتدئ، وأمين الفرقة الحزبية، ليصل إلى مرشح جائزة نوبل، والأمين القطري والقومي، فجلسات الطائفة أو القبيلة الحميمية وخاصة في مناسبات العزاء والأفراح وفي لحظات الأزمات، هي الأكثر فاعلية في حياة النخب السورية من كل الطوائف، إذ تبقى الحداثة والقومية والاشتراكية تنتظر على الباب مع الأطفال والخدم وسائقي المسؤولين، ولا يحق لها الدخول والمشاركة في القرارات الحقيقية والفعالة، رغم انتقال هذه التجمعات من فشل إلى آخر، ومن جريمة أخلاقية الى أخرى.
الثورة السورية كانت صدمة لكل البنى الاجتماعية والسياسية في سوريا، وهزت اليقين لدى النخب المتكاذبة والمستسلمة لحبال الخداع، التي تتصنّع الاستقرار المتمثل بعودة أخته بعد الساعة الثالثة ليلًا من دون أن يزعجها أحد!
عبقرية الثورة كانت ببساطة مطلبها، وهو يتلخص بكلمة واحدة: الحرية.
ولم تكن تطالب بتفوق طائفة أو قبيلة أو مهنة أو فئة على أخرى، كانت تطالب بوقف التلاعب بالنسيج الوطني السوري.
قالت الثورة لقد شبعنا من المكاذبات ونريد الحرية، ورفع المتظاهرون الورود والأعلام والأغاني الجميلة، ولكن أهل المكاذبات الراسخة، لم يستوعبوا الإبداع والرقي الذي جاءت به الثورة، ولم يلتقطوه ليبنوا عليه، بل أطلقوا المزيد من بضائعهم الفاسدة، وتسلّحوا بالمزيد من القتل والدمار، وورّطوا الطوائف في استهلاك الحقد الذي تكنّه مافيات النظام ضد الدولة والمجتمع، واستجلبوا النفوذ الأجنبي من كل الأشكال والألوان، وملأوا أرض سوريا بالأيتام والأرامل من كل الطوائف، ونشروا النازحين واللاجئين في كل الأرجاء، وبوحشية تعبّر عن احتقارهم لكل النسيج الوطني السوري بما فيه شبيحتهم الذين يموتون بلا حساب.
إن وقف المكاذبات، ووقف تراشق التهم الطائفية والعنصرية، والتعامل الصريح بيننا على أسس المواطنة الصادقة، ووضع عقد اجتماعي للتنفيذ وليس للخداع المتبادل، هو الحل لتناقضاتنا بكل تجلياتها، الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، والسياسية، وهذا ما فعلته كل الدول بما فيها الدول الإفريقية جنوب الصحراء، فهل نحن قادرون على تحدي أنفسنا وتجاوز قيم المكاذبة لكي نوقف حمام الدم، ونجنّب الأجيال القادمة ويلات ما استزرعه هذا النظام من مشاريع لحروب أهلية دائمة التجدد.