معتقلون خارج حدود الزنزانة
في الوقت الذي يغيب فيه الكثيرون في معتقلات الأسد، تزداد قتامة الحياة في الخارج دونهم بالنسبة لمحبيهم، فتتحول الذكريات إلى زنزانة أخرى تأسر صاحبها، تزداد ضيقًا كلما زاد البعد. وكذا حال من ترك وطنه ولم يعد بإمكانه العودة، تتحول غربته إلى منفى.
شادي الذي سافر خارج البلاد خوفًا على حياته وعائلته وسعيًا وراء الرزق آملًا أن تفتح أمامه الأبواب، يجلس اليوم في عاطلًا عن العمل في الغربة، يندب حظه تارة، ويلوم نفسه تارة أخرى، فشادي يشعر أنه «محاصر» في سجن الغربة، غير قادر على العودة، وغير قادر على الاستمرار؛ فما كان يملكه شادي في الوطن ضاع، حتى بيته استولى عليه الشبيحة، ولكنه يعلم في قرارة نفسه أنه هو الذي استعجل الرحيل وأنه هو الذي اختار السفر، فلا يلوم إلا نفسه على ما فعل وعلى ما آل إليه حاله.
أما براء وهو ناشط مطلوب وملاحق، يقول أنه يشعر بضيق شديد «لم يبق شيء من ذكرياتي إلا وارتبط بمعتقل.. أفتقد أصدقائي، وأتمنى لو أنهم كانوا حولي الآن… غيابهم يشعرني بالعجز فما من شيء باستطاعتي فعله لمساعدتهم. دائمًا أفكر ما سيكون رأيهم في هذا الأمر، وفي ذاك؟ ما الذي كانوا سيفعلونه لو كانوا مكاني؟ ما الذي كانوا سينصحونني بفعله في هذا المأزق؟». يتوارى براء اليوم في منزل صديق له إلى أن «يفرجها الله» ويجد مخرجًا لحاله، والخوف يتملكه أن يعتقل صديقه بسببه فهذا آخر ما يتمناه، صديق آخر معتقل.
هدى التي غيب والدها وأخوها وزوجها في أقبية النظام تقول أنها تشعر بالذنب وبالندم على كل الوقت الذي ضيعته دون أن تقضيه معهم، وتقول هدى أن فراقهم جعلها تشعر «بقيمتهم أكثر» خصوصًا أخاها الذي تفتقده كثيرًا، وتضيف «كنت أشعر بالعجز وبالنقص بدونهم».
لينا أم لثلاثة أطفال، اعتقل زوجها منذ أكثر من عام ولا يعرفون عنه شيئًا إلى الآن؛ تقول لينا أنها تألم لحال أطفالها الذين حرموا حنان الأب، ولا تستطيع حبس دموعها كلما رأت طفلًا في حضن أبيه، وتأسف لحال صغيرها الذي يقل كلمة «بابا» منذ شهور. ترعى لينا أطفالها وتتابعهم، وتحكي لهم عن والدهم الذي يأملون جميعهم أن عودته قريبة.
هادي الذي لم يكد يبلغ الخمس سنوات لم يسلم من أسى هذا الشعور، فالطفل الصغير الذي اشتاق لرؤية والده تسأله أمه ماذا يريد فيجيب بعفوية وتلقائية، «بدي يرجع بابا.. بدي يرجع أبوها لريم» قاصدًا ابنة خالته ذات الخمس سنوات أيضًا والمعتقل والدها منذ شهور، «بدي يرجعو كل الآباء على بيوتهم.. وبس».
مها التي اعتقل خاطبها بعد أسابيع قليلة من خطوبتهم ترفض الحديث عن غيابه، إلا أن معالم وجهها يثقلها الألم والشوق، تدعو له بالفرج القريب. تقول أختها أن مها باتت انطوائية، وقلما تتواصل مع من حولها، وتبكي طوال الوقت، وكثيرًا ما تدعو بأن «يا يطالعوه يا يعتقلوني معو».
تفتقد ايمان أخويها وزوجها المغيّبين، إلا أن غياب زوجها هو أكثر ما يؤلمها لأنه «كان لي أبًا وأخًا وصديقًا وكل شيء»، وتضيف ايمان التي فقدت الكثير من وزنها بعد اعتقالهم أن مسؤولية الأولاد صعبة جدًا بغياب والدهم، ودور الأم والأب معًا أثقلها وهي لا تقوى على القيام به وحدها. «اشتقت لحنية أخي الصغير، ولا أجد من أشكو إليه، كل مين همه يكفيه» فاثنان من إخوتها الثلاثة معتقلان، والثالث أبعده عنهم النزوح، ووالدها الذي يتولى مصروف عائلتها بعد اعتقال زوجها يحمل من الهموم ما يكفيه.
قصص أخرى كثيرة لا يكاد بيت يخلو منها، وفي كل قصة غصة، ويبقى الأمل بأن عودة الأحبة قريبة، وأن للصابرين الأجر والثواب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :