ما بعد جنيف 4
من المتوقع أن يتصاعد التهكم الشعبي السوري على متوالية مؤتمرات جنيف وأستانة، وفي كل ساعة يتأخر فيها الوصول إلى حل سياسي، يفارق الحياة عشرات الأشخاص. ومن المتوقع أيضاً أن يتصاعد استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، بعد أن منحت روسيا والصين ضمان عدم العقاب والملاحقة القانونية للنظام السوري عبر «الفيتو» الذي جعل مجلس الأمن معطلاً فاقد القدرة على تحقيق الأمن للشعوب المضطهدة.
وبعد أيام تدخل القضية السورية عامها السابع، ويتفاءل بعض السوريين بأن تنتهي السنون العجاف بحل إلهي، وأن يتلمسوا خطوة ولو كانت وئيدة نحو الحل السياسي، وهذا ما جعلنا نشعر بأن الموقف الروسي بدأ يتحرك قليلاً حين وافقت موسكو على بدء مفاوضات الجولة الرابعة من جنيف ببحث عملية الانتقال السياسي، ومارست ضغوطاً على النظام كي يقبل، مع توجسنا بأنه لن يكون جاداً، ولا يملك وفده المفاوض صلاحية التنازل عن سلطات النظام لسلطة جديدة هي هيئة الحكم الانتقالي، حتى لو كان نصفها من النظام نفسه، فكيف أمام إصرار المعارضة على ألا يكون للأسد دور في مستقبل سوريا.
سيعبث النظام بتفسيرات سفسطائية لبيان جنيف، تزعم أن الانتقال السياسي لا يعني التخلي عن الأسد، وقد يكرر الروس قولهم «لسنا متمسكين بالأسد، ولكن لا بديل عنه، والتخلي عنه سيقود البلاد إلى فوضى»، وكأن سوريا بقيادته اليوم تنعم بالاستقرار! وسيدافع بعض المعارضين الناعمين عن حق الأسد في الترشح للانتخابات الرئاسية وهم يعلمون أن الشعب السوري في الشتات لن يملك القدرة على مواجهة الموالين للأسد في انتخابات مهما كانت نزيهة.
ولا يغيب عن أحد أن الانتقال السياسي هو مغادرة عهد وحكم قائم، إلى عهد وحكم جديدين، ولئن كانت المعارضة قد قبلت بالتشاركية مع النظام، فهذا قبول بالحفاظ على المؤسسات والبنى التحتية التي لم تدمر بعد، ولكن بقاء من ارتكبوا المجازر وقتلوا وهدموا واعتقلوا وعذبوا الشعب، ومن أحرقوا البلد يناقض الانتقال الذي حدده بيان جنيف بوضوح.
والعقدة الكبرى في مسار الحل هي مستقبل الأسد، ورعاة الحل السياسي دولياً يدركون ذلك، ويعلمون جيداً أن تعثر مسار المفاوضات ليس في خلاف حول مستقبل سوريا الديموقراطية، وإنما هو حرصهم على مستقبل الأسد فقط، لأنه الضامن لبقاء روسيا، ولسلطة إيران وتوسعها الإمبراطوري في الشرق الأوسط، وهناك آخرون يخشون أن تنهض سوريا من مستنقع الموت والدمار، وأن تخرج عن السيطرة التقليدية.
وهم يدركون أن نهاية عهد الأسد تعني نهاية سريعة لكل تنظيمات الإرهاب التي أطلقها النظام من جحورها للتعمية على ثورة الشعب، ولكي يصل إلى هذا التوصيف الذي سعى إليه، بتقديم القضية السورية على أنها إرهاب يهدد الشرعية (الأسد أو الإرهاب)، وقد أسهمت جهات مخابراتية كبرى في جمع شتات الإرهابيين من مختلف دول العالم إلى ما سموه «مصيدة الذباب»، ونسيت الحكومات قضية شعب ثار من أجل الحرية وطالب بالكرامة وهدفه بناء دولة مدنية ديموقراطية تنهي مرحلة الدولة العسكرتارية الأمنية.
وحسبنا شاهداً على زيف ما يحدث من تمويه، لغز تنظيم «داعش» الذي تعجز ستون دولة ونيف عن محاربته والقضاء عليه، وها هو ذا في الجنوب السوري ببضع مئات من جنوده مستمر في عدوانه على الجيش الحر يساعده النظام بغطاء من القصف، فضلاً عن القصف الحليف على مناطق المعارضة الوطنية وعلى خطوط الإمداد في المنطقة الغربية من محافظة درعا، والأخطر تجاهل قوات التحالف الدولي لهجوم «داعش» وتقدمها نحو مزيريب وطفس والعجمي ودرعا المدينة وسواها من قرى المنطقة، وهذا كله يحدث اليوم، بعد أستانة وعهود الهدنة ووقف إطلاق النار.
لقد أقررنا بأن روسيا بدأت تقدماً طفيفاً نحو جدية في الحل السياسي عبر موافقتها على بحث قضية الانتقال السياسي، وإذا غضضنا الطرف عن فجيعة «الفيتو» الذي استنكره العالم، فسوف ننتظر من روسيا المتفردة بالشأن السوري جدية أقوى في غياب الولايات المتحدة عن مفاوضات جنيف، وإلا فسوف ينهار بنيان الحل السياسي، وستمتد المأساة السورية إلى عقود مقبلة، لا سمح الله.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :