تمرين تفاوضي في جنيف
بإبداء تشاؤمه حيال إمكانية تحقيق تقدم في الجولة الحالية من مفاوضات التسوية السورية، يقر المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، أن دوره، في غياب توافق إقليمي دولي، تفصيلي، لا بل يمكن حتى الاستغناء عنه، كما حصل تقريبا في “أستانة 1″، لولا أنه سارع لإنقاذه في اللحظات الأخيرة. بناء عليه، وبانتظار حصول خرق إقليمي – دولي يسمح ببدء مفاوضات فعلية، وضع دي ميستورا الذي يفضل أن يتم توصيفه “بالُمَيسِر أو المُسَهِل” (Facilitator)، أهدافاً متواضعة لهذه الجولة. أولها، الاتفاق على جدول أعمال للمفاوضات (حكم ـ دستور- انتخابات). وثانيها، إقناع الجميع بالاستمرار في التظاهر بوجود وقف إطلاق نار، منعاً لانهيار المفاوضات، وأخيراً الاتفاق على موعد جولة جديدة من المفاوضات. لكن حتى هذه الأهداف المتواضعة تبدو صعبة المنال، في ضوء تضارب الرؤى والأولويات بين أطراف الصراع، وانتظار اتضاح سياسة الإدارة الأميركية الجديدة تجاه المسألة السورية.
يعرف دي ميستورا، أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لم تكن تريد عقد هذه الجولة من المفاوضات، وهذا ما دفعه، من بين أسباب أخرى، إلى تأجيلها من 8 فبراير/ شباط إلى 20 ثم إلى 23 منه، فإدارة ترامب لا تبدو مستعجلةً على الحل السياسي، في ضوء رؤيتها للمسألة السورية، باعتبارها مشكلة إرهاب ولاجئين، ما يتطلب، وفقاً لها، تكثيف الجهد في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية من جهة، وإقامة مناطق آمنة لإيواء اللاجئين، ومنعهم من “غزو” مجتمعات الغرب “المتحضرة”. من جهة أخرى، العمى السياسي والعطب الأخلاقي الذي تعانيه إدارة ترامب إلى درجة تجعلها غير قادرة على إدراك أن مشكلة الإرهاب واللاجئين ليستا إلا نتيجة مباشرة لسياسات النظام وحلفائه، يرتب عليه أن ما يجري في جنيف يكاد يكون منفصلاً عن الواقع.
لم تبد الولايات المتحدة فقط عدم اهتمام بمساعي الحل السياسي الذي يحاول الروس هندسته في جنيف عبر أستانة، بغيابها الكامل عن جولة المفاوضات الحالية، بل برهنت من جديد على أن لا قيمة لأي مسار سياسي، لا تكون هي طرفاً رئيساً فيه. وعليه، عمدت إلى تقويض مسار أستانة وإسقاط التفاهم، التركي – الروسي – الإيراني. وأدى إحياء ترامب فكرة إنشاء مناطق آمنة في سورية إلى إنعاش آمال تركيا بإمكانية تحقيق هذا الهدف، وكبح من ثم جماح انجرافها نحو روسيا، ما يفسر سلوكها غير المتحمس لأستانة 2 الذي عقد في 15 و16 فبراير، كما يفسّر أيضاً البرودة المستجدة في العلاقة مع موسكو، والتي تمثلت بعودة الاتهامات التركية لها بدعم الأكراد، وكذلك ارتفاع نبرة الخطاب التركي تجاه إيران، حيث بلغ التلاسن بين الطرفين في الآونة الأخيرة مداه. بالمثل، أدى الضغط الأميركي على إيران إلى تسريع محاولاتها التي لم تتوقف، لفرض وقائع جديدة على الأرض في سورية، ما يجعل إعلان موسكو الثلاثي في مهب الريح. أما الطرف الثالث في المعادلة، وهو روسيا، فقد تركتها إدارة ترامب في حالةٍ من الحيرة والضياع، فالرئيس يدافع عنها ونائبه يهاجمها، ثم تجري إطاحة أفضل أصدقائها، مايكل فلين، قبل أن تعود وترتفع أسهم التفاهم معها، كما عبر عن ذلك صديقها الآخر في الإدارة، ريكس تيليرسون.
في الشق الآخر، أدى تكثيف الاستعدادات الأميركية لطرد تنظيم الدولة الإسلامية من الرقة إلى استدراج عروضٍ متفاوتةٍ من شركاء أستانة، فقد عرض الأتراك خطتين على الأميركيين: الأولى أن يتجهوا مع قوات “درع الفرات” من الباب بعد استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية شرقاً عبر منبج نحو الرقة، أو التوجه، مع قوات عربية خليجية، من تل أبيض جنوباً باتجاه الرقة. قدّم الروس والإيرانيون هم الآخرون عرضهم أن يطردوا، مع النظام السوري، بغطاء أميركي كما في العراق، التنظيم من المدينة، وهذا ما يفسر استماتة قوات النظام وحلفائها في سعيهم إلى قطع الطريق بين الباب والرقة على الأتراك وحلفائهم في “درع الفرات”. وهكذا لم يبق أمام الأتراك إلا خيار تل أبيض، لكن الأميركيين لا يبدون متحمسين له، لأنه سيؤدي إلى صراع دام بين الأتراك والأكراد المسيطرين على شمال الرقة وغربها، قبل حصول أي اشتباكٍ مع تنظيم الدولة الإسلامية المتحصن في الرقة. يدرس الأميركيون هذه العروض، لكن النتيجة المباشرة لما فعلوه أنهم فكّكوا أستانة، ويتجاهلون جنيف، وبالتالي يصح القول، إن ما يجري في جنيف لا يعدو كونه تمريناً تفاوضياً.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :